آخر تحديث :السبت - 20 أبريل 2024 - 01:32 ص

قضايا


"مسيرة الثورة السلمية الجنوبية "أطروحة علمية لباحثة نالت بها درجة الدكتوراه من المانيا

الأحد - 09 ديسمبر 2018 - 10:39 م بتوقيت عدن

"مسيرة الثورة السلمية الجنوبية "أطروحة علمية لباحثة نالت بها درجة الدكتوراه من المانيا

عرض/ عبدالسلام الربيدي

المقاومة عبر الأجيال: انتقال السردية المضادة للهيمنة باعتبارها شكلا يوميا للمقاومة في نضال الجنوب العربي ( جنوب اليمن) من أجل الاستقلال



أطروحة علمية نالت بها آنا لندا أميرة أوغسطين درجة الدكتوراه من جامعة ماربورغ في ألمانيا.
------------
كان 2007 عام مولد الحراك الجنوبي في ثمان محافظات يمنية جنوبية كانت تشكل، قبل وحدة 1990، ما كان يُعرف بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والحراك الجنوبي يعد قمة ما وصلت إليه مشاعر الجماهير الجنوبية في احتجاجها ضد هيمنة نظام علي عبدالله صالح ( توفي 2017) في الشمال على مقدرات الجنوب الإنسانية والطبيعية منذ حرب صيف 1994، وفقا لخطاب الحراك الجنوبي. تكوَّن الحراك (كما يدعى اختصارا) في بداياته من مجموعة عسكريين ومدنيين أقصوا قسرا من جهاز دولة الوحدة ليتحول مع الزمن إلى حركة شعبية عارمة تتجاوز عدن، حاضرة الجنوب، إلى كل مدن الجنوب، وبلداته، وقراه التي تشكل ما يقرب من ضعف مساحة الشمال. تجاهل الحكومة في صنعاء لمطالب الجنوبيين و تعاملها القمعي مع الناشطين هما العاملان اللذان قدحا نار الاحتجاجات الصغيرة لتتطور إلى مظاهرات حاشدة، و إلى بروز كل شعارات الدولة القديمة في الجنوب وتاريخها المستبعد من مناهج مدارس الوحدة.

تحاول الباحثة آنا لندا أميرة أوغسطين في أطروحتها أن تتَّبع السمات التي يختلف بها الحراك الجنوبي عن غيره من الحركات الإجتماعية في أنحاء مختلفة من العالم. فمع وجود المشتركات البنيوية بين الحركات الاجتماعية سعت الباحثة إلى وضع الحراك الجنوبي في سياقه الاجتماعي، وضمن خلفيته التاريخية و الثقافية والسياسية، وفي ضوء البنيات الإقتصادية والاجتماعية التي تكتنفه وتؤثر في مساره. و أهم ملمح فريد ومميز لهذه الحركة الاجتماعية أنها تطالب في المقام الأول باستعادة دولة كانت موجودة. وهي سمة يختلف بها الحراك الجنوبي عن حراكات اجتماعية معاصرة في العالم. و أهم ما لفت الباحثة هو الخطاب التذكري الشائع في أوساط الشباب الجنوبي الذين ولدوا بعد الوحدة.

ووفقا للباحثة، وقد قضت فترة جمعها للبيانات في أوساط مختلف الشرائح في الجنوب، فإن هؤلاء الشباب دائما ما يرجعون إلى زمن جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية متذكرين منجزاتها ومؤكدين على خصوصيتها.
يقولون "كان عندنا دولة" و " كان عندنا كذا وكذا من المنجزات". وهذا هو ما آثار سؤال البحث الأساسي عن مصادر تلك الذاكرة و موارد تمثيلات ذلك الماضي الذي لم يعشه هؤلاء الشبان والشابات ممن يسمون بـ"جيل الوحدة".


المنهج
أرادت الباحثة فهم الحركة الجنوبية من خلال ممارساتها الخطابية ونضالاتها العابرة للأجيال. استخدمت الباحثة منهج النظرية المجذرة Grounded Theory التي يعمد فيها الباحثون إلى تطوير النظرة حول الموضوع انطلاقا من البيانات المستمدة من الواقع، وفقا لشعار هذه النظرية "كل شيء بيانات". في هذا الصدد، استخدمت الباحثة ما يسمى بـ"اثنوغرافيا نضال الاستقلال"حسب نوردستروم (1995) الذي صك مصطلح " اثنوغرافيا مناطق الحرب" (ص 139). ومع أن الباحثة قد ظلت تراقب الوضع في الجنوب عن كثب عن طريق زياراتها لعدن و أبين منذ انطلاقة الحراك الجنوبي في العام 2007، فإنها في العامين 2014 و2015 قد ذهبت إلى الجنوب بهدف البحث الميداني العلمي و طافت خلال هذه الفترة أماكن متعددة من الجنوب أهمها عدن الحاضرة الأهم في الجنوب التي ظلت تشهد المظاهرات المليونية طيلة العقد الأخير، ثم ردفان التي تعد من أهم معاقل الحراك، وأبين المدينة المتاخمة لعدن والمؤثرة في مسار الأحداث.

وظلت الباحثة على اتصال دائم بأبناء المحافظات المختلفة كالضالع وسقطرة وحضرموت وشبوة و أبين والمهرة وعدن وبأولئك الموجودين في الشتات كبيروت و برلين وغيرهما. وخلال بحثها الميداني أخذت الباحثة أكثر من 1300 صورة وفيديو لفعاليات الحراك. وجمعت أكثر من 50 شعارا تعتمدها الحركة واستخدمت الباحثة، إلى ذلك، أسلوب الملاحظة عبر المشاركة؛ إذ حضرتْ عددا من الفعاليات الجنوبية و أهمها المليونيات التي تقام في عدن ويحضرها آلاف المشاركين من المحافظات الثمان. وقد سجلت أيضا أكثر من 40 ساعة من المقابلات المفتوحة مع ناشطين من الحراك ومن الطبقات المختلفة من الشعب، ونفذت جلسات مجموعات مركزة من أفراد يزيدون على الثلاثة وقد يصلون إلى 30 شخصا. سجلت اللقاءات مع أكثر من 80 شخصا ينتمون إلى مختلف المناطق و تتراو١ح أعمارهم بين 19 و 70 سنة. خضعت كل هذه البيانات للتحليل والمقارنة المحورية الانتقائية حسب نهج النظرية المجذرة Grounded Theoryكما طوره شتراوس وكربن (1990). بعد ذلك لجأت الباحثة إلى تحليل بعض كتب المناهج في مواد التاريخ والتربية الوطنية والتربية الاجتماعية والجغرافيا. نظرت الباحثة في هذه الكتب إلى المحتوى المتعلق بتقديم التاريخ اليمني المعاصر وكيفية سرده.
و إلى جانب ذلك درست الباحثة نصوصا من صحف محلية جنوبية معروفة، مثل: عدن الغد، والأيام، والقضية، كما حللت بعض نصوص وسائل التواصل الاجتماعي.



النتائج
اتضح من خلال مقارنة المقابلات التي أجرتها الباحثة بعضها مع بعض أن القصص لدى المقابلين تتشابه في محتواها رغم أن هؤلاء الناس لا يعرفون بعضهم البعض. ولاحظت الباحثة أن طريقة استخدامهم للغة تتشابه إلى حد كبير مع خطاب الحراك الجنوبي. في هذا الخطاب تظهر النزعة المناهضة لسردية الوحدة الوطنية التي يتبناها الحزب الحاكم و مؤسسات الدولة ونخبها. وطبقا لاسمان (2007)، عالم الذاكرة الألماني المعروف، فإن "السردية الوطنية" عبارة عن "تنظيم متماسك للأحداث وفقا لخط سردي صارم يخدم الدعم الفكري والعاطفي للهوية الوطنية"(ص 40). وهذه السردية الوطنية، طبقا لـورتش (2012)، تزوِّد "المجموعات بالأفكار عن ماضيها وعن دورها في العالم" (ص174). وفي خطاب الوحدة الوطنية المكرس في كتب المدارس في اليمن تظهر دولة الوحدة صانعة للمنجزات في كل أرجاء البلد، في حين يرى كثيرون من الجنوبيين أن العكس صحيح. و تخفي هذه الكتب المدرسية التي تمثل التاريخ الرسمي للبلد معوِّقات الوحدة ومشاكلها، وحرب صيف 1994، و تهميش الجنوبيين و تسريحهم من أجهزة الدولة. وهذا الخطاب بطبيعة الحال يتعارض مع ذاكرة الجنوبيين الاجتماعية المتعددة الأصوات ( انظرويلتزر 2001)، بل يتعارض مع ما يسميه يان اسمان ( 1999)بالذاكرة التواصلية التي قد تصل إلى ثلاثة أجيال.
ومن خلال تحليل الباحثة للمقابلات، وللشعارات، و للأغاني، والفيديوهات، و لبعض المقالات والتغطيات في الصحف المحلية تبين للباحثة أن هذه السردية الجنوبية قد تشكلت من خلال رواية النقل اليومي العابرة للأجيال وكذلك الذاكرة المضادة التي استخدمها بعض الفاعلين في الجنوب ممن اضطلعوا بمصادمة السردية المهيمنة. وهو ما تسميه الباحثة بـ"المقاومة عبر الأجيال".
ومن هنا يستخلص المرء الإجابة عن السؤال المتعلق بسرعة نمو الحراك الجنوبي و قوته على الأرض بأن ذلك يتلخص في المقاومة العابرة للأجيال التي تعد وفقا لسكوت (1995) "سلاح الضعيف". وهو سلاح يلجأ إليه الناس العاديون الذين لا يملكون القوة بصورة نسبية، ويعد شكلا يوميا من ممارسة المقاومة ولاتحتاج إلى تخطيط و لا إلى تنسيق. وهذه المقاومة ، وفقا لسكوت (1995) " غالبا ما تكون أكثر جدوى وتأثيرا على المدى البعيد" ( صxvi).
غالبا ما تبدأ هذه المقاومة سرية وتنتقل عن طريق السرد والتذكر بين سارد، و مستهدف، ومشاهد. يمارسها المقاومون في الفضاءات الخاصة وفي البيوت؛ لأنها قد تكون خطيرة. وهذا الفعل يطلق عليه سكوت (1990) " النص المخفي" و يتمثل في " الكلام، والايحاء بالإشارة، والممارسة التي تؤكد أو تعارض ما يمكن أن يسمى بالنص العام المكشوف" (ص4-5). وهذا نوع من الخطاب يمارسه المحكوم من وراء ظهر الحاكم المتغلب.
و تتبع الباحثة روزنتال ( 1997) في افتراض " أن النقل عبر الجيلي ذو طابع حواري أوعملية تفاعلية جيلية، و يكون من شأن ذلك النقل إنهاء صلاحية الفهم التقليدي والثابت لنقل التوجهات والذكريات من جيل إلى الجيل الذي يليه" ( ص5). وتلاحظ الباحثة أن الجيل القديم يتأثر و يتشكل بموجب الخطاب الذي يكونه الجيل الجديد، فما يسمى بـ(جيل الوحدة) في الجنوب يعد أكثر قوة وصلابة في تشكيل السردية المناهضة للهيمنة. ومصطلح جيل الوحدة نفسه، وهو مصطلح استخدمه الحزب الحاكم في الشمال لتأطير القطيعة مع الماضي في الجنوب؛ قد جوبه بازدراء ممن التقتهم الباحثة من جيل ما بعد 1990.
و ترى الباحثة أن النقل عبر الأجيال ليس شكلا من أشكال المقاومة والمعارضة في ذاته ولذاته. بل إن هنالك عوامل أخرى هي من يحوِّل تلك الظاهرة اليومية الموجودة في أوساط الأسر، ضمن أنشطة حياتية أخرى، إلى شكل من أشكال المقاومة اليومية. وبناء على المادة البحثية الامبيريقية التي استخدمتها الباحثة تميز بين خمس سمات ضرورية لتحقق المقاومة عبر الأجيال ( أو النقل عبر الجيلي بوصفه شكلا من أشكال المقاومة اليومية). هذه الخمس السمات هي: 1) البيئة الاجتماعية السياسية التي تتطور فيها المقاومة عبر الجيلية، 2) الفاعلون المنضوون تحت هذا الشكل من المقاومة، 3) المحتوى المنقول، 4) الفضاءات التي يمارس فيها الفاعلون نقل الرواية المضادة للهيمنة، 5) الوسائل التي يستخدمها الفاعلون لتسريع عملية النقل.
وتتحدث الباحثة عن أربعة أنواع من المقاومين : الناشط في الشارع، والناشط المتعدد الفضاءات، والناشط دون توفر نية المقاومة، و ناشط فضاؤه المنزل. كما تعرضتْ للظروف المشكِّلة لهذه الحركة ابتداء بالاضطهاد والتهميش اللذين أعقبا حرب 1994 ، وتعريجا على زمن ظهور الحركة 2007 ، وانتهاء بقمع المظاهرات و سجن الناشطين وتعذيبهم. ووفقا للباحثة، فإن هذه المقاومة تتكوَّن من حزمة من الممارسات: أهمها الذاكرة بمختلف تجلياتها، ثم تأتي طريقة التصرفات، وأشكال التوجهات، والرموز، والإشارات والإلماحات التي تمارس بشكل يومي، وتنقل بصورة عبر جيلية ذاكرة مشتركة عن هوية مشتركة.
تحتلُّ نزعة الحنين إلى ماضي جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، ومنجازاتها، وقوتها التنظيمية، حيزا واسعا من هذا السرد المقاوِم، يليه حيز شكوى الحال من واقع ما بعد الوحدة، وما طال الجنوب من تهميش واقصاء. و تأخذ المدارس، والبيوت، والنوادي ،والميادين، دور الأماكن الحاضنة للخطاب والمنتجِة له. وفي هذا السياق، تنتقل السردية عن طريق المعلمين والجيران و الأصدقاء.
في هذا البحث المثير للاهتمام تربط الباحثة بين منتجات فكرية مختلفة في علم دراسات الذاكرة الذي شاع مؤخرا، وعلم السياسة، والانثربولوجيا الاجتماعية، والتاريخ. وبهذا؛ فالباحثة قد استطاعت، في أول دراسة أكاديمية من نوعها عن الحراك الجنوبي، أن تضع هذه الحركة ذات السمات المميزة في العالم العربي في حيز التداول الأكاديمي الجاد، بعد أن عانت هذه الحركة من تجاهل أكاديمي مرير. وفي رأيي أن هذا التجاهل في العالم العربي عامة، وفي الجزيرة العربية خاصة، راجع إلى الارتباطات العاطفية المتعلقة بفكرة "الوحدة" العربية التي أخذت طابعا تقديسيا مع الزمن وبفعل وقع التدخلات الخارجية المتوالية. هذا بالإضافة إلى غياب العقلانية الأكاديمية في المؤسسات العربية الجامعية وفشلها في أن تأخذ كل حركة ضمن إطارها المحلي و أن تخضعها للبحث الموضوعي بعيدا عن التصورات المسبقة والتوجهات المبنية على سرديات كلية عاطفية لا تمت بصلة إلى واقع المجتمعات المحلية، ومعاناتها، ورؤاها عن العالم.

من مراجع ومصادر البحث
Assmann, Jan (2007): Cultural memories and national narratives: With some relation to the case of Georgia. White paper report prepared for the Georgian Ministry of Education. Based on the working meeting “Negotiating a new national narrative in Georgia” In: Caucasus Context 3(1), pp. 40-41.

Assmann, Jan (1999): Das kulturelle Ged�chtnis – Schrift, Erinnerung und politische Identit�t in fr�hen Hochkulturen, M�nchen: Verlag C.H. Beck.

Nordstrom, Carolyn (1995): Creativity and Chaos: War on the Front Lines. In: Nordstrom, Carolyn/Robben, Antonius C. G. M. (eds.): Fieldwork under Fire: Contemporary Studies of Violence and Survival, Berkeley: University of California Press, pp. 129-153.

Rosenthal, Gabriele (1997): Zur interaktionellen Konstitution von Generationen: Generationenabfolgen in Familien von 1890 bis 1970 in Deutschland. In: Mansel, J�rgen/Rosenthal, Gabriele/T�lke, Angelika (eds.): Generationen-Beziehungen, Austausch und Tradierung. Opladen: Westdeutscher Verlag, pp. 57-73. URN: http://nbn-resolving.de/urn:nbn:de:0168-ssoar-57711, pp. 1-22.

Scott, James C. (1995): Weapons of the Weak: Everyday Forms of Peasant Resistance, New Haven/London: Yale University Press.

Scott, James C. (1990): Domination and the Arts of Resistance: Hidden Transcripts, New Haven/London: Yale University Press.

Strauss, Anselm/Corbin, Juliet (1990): Basics of Qualitative Research. Grounded theory procedures and techniques, Newbury Park, CA: Sage.

Welzer, Harald (2001): Das soziale Ged�chtnis. In: Welzer, Harald (ed.): Das Soziale Ged�chtnis: Geschichte, Erinnerung, Tradierung, Hamburg: Hamburger Edition, pp. 9-21.

Wertsch, James V. (2012): Deep Memory and Narrative Templates: Conservative Forces in Collective Memory. In: Assmann, Aleida/Shortt, Linda (eds.): Memory and Political Change, Basingstoke: Palgrave Macmillan, pp. 173-185.
عن الباحثة
آنا لندا أميرة أوغسطين: كانت باحثة في جامعة فيليب –ماربورغ، ألمانيا. و تعمل حاليا مستشارة للمجلس الانتقالي الجنوبي في أوروبا – برلين.

العنوان الأصلي للأطروحة
Intergenerational Resistance: The Transmission of a Counter-hegemonic Narrative as an Everyday Form of Resistance in the South Arabian Independence Struggle (Southern Yemen)
By Anne-Linda Amira Augustin