آخر تحديث :الأربعاء - 24 أبريل 2024 - 10:25 م

كتابات واقلام


دعوة لإقامة «نظام ويستفالي» عربي

الثلاثاء - 08 ديسمبر 2020 - الساعة 11:10 ص

د. محمد علي السقاف
بقلم: د. محمد علي السقاف - ارشيف الكاتب


لماذا تدعو الحاجة إلى تبني نظام ويستفالي عربي لمواجهة تحديات التغلغل التركي والإيراني في المنطقة العربية، باستدعائهما التاريخ القديم لتبرير عودتهما إلى المنطقة العربية، وهل سيطرتهما على عواصم عربية عدة تعني أن الدول العربية لم تعد سيدة قرارها؟ وما المقصود بالنظام الويستفالي؟ وهل ما نجح في أوروبا بإمكانه النجاح في المنطقة العربية؟ أم إن هشاشة المجتمعات العربية تحول دون نجاحها؟ هل قدوم إدارة جديدة في الولايات المتحدة قد يدفع بها إلى إعادة النظر في مواقفها بعضها إزاء بعض، لتقف وقفة رجل واحد كما حدث في مناسبات سابقة من تاريخها، أم إن حدوث ذلك مجدداً مجرد أحلام يقظة غير واقعية؟
تسمية «ويستفالي» تعود إلى مكان عقد «مؤتمر السلام» في منطقة ويستفاليا الألمانية، الذي، عبر معاهدة سياسية وُقعت في 24 أكتوبر (تشرين الأول) 1648 وسميت «صلح ويستفاليا»، أنهى حرب الثلاثين عاماً (1618 – 1648) بين الكاثوليك والبروتستانت، وانتهت باتفاق سلام هو الأول من نوعه أوروبياً، حسب توصيفه من بعض المؤرخين، وبالإقرار بعدم تدخل كل من الطائفتين في شؤون الأخرى؛ لأن الدفاع عن العقيدة هو الذي يحرك الحروب الدينية، بينما جوهر «نظام ويستفاليا» يقوم على عدم جواز التدخل في العقيدة الدينية للشعوب الأخرى. ومن هذه الفكرة ظهرت بداية نشوء مفهوم الدولة القومية؛ الدولة ذات السيادة، وبداية بروز مفهوم الدولة الحديثة بوصفها كياناً قانونياً مستقلاً عن حكامه.
معاهدة «صلح ويستفاليا» لا تمنع في الحقيقة الصراعات والنزاعات بين الدول التي بأخذها طابعاً دينياً أدت إلى هلاك أوروبا؛ وإنما تعني أن الصراعات تأخذ شكل الحروب المحدودة بغية تحقيق مصالح الدولة القومية.
والعامل الآخر المهم في النظام الويستفالي يتمثل في توازن القوى بين الأحلاف بين بعض الدول الأوروبية والأحلاف المضادة.
تعدّ «معاهدة ويستفاليا» حصيلة التاريخ الدامي في أوروبا، وهي كذلك نتيجة أفكار بعض المفكرين الأوروبيين، التي لخصت بكلمتين: «السيف» و«القلم»، فضجيج المدافع والسيوف الذي عرفته الساحة الأوروبية في الفترة من 1618 إلى 1648، صاحبته، بموازاة ميادين القتال، آراء واجتهادات المفكرين، من أمثال رجل القانون الدولي الهولندي الشهير جروتيوس هيغو، الذي كان واحداً ممن وضعوا أسس القانون الدولي اعتماداً على «الحق الطبيعي»، وأحد مؤلفاته كتابه حول «قانون الحرب والسلام». والشخصية الأخرى السياسي البارع الكاردينال الفرنسي ريشيليو. وقد لعبت الشخصيتان في النصف الأول من القرن السابع عشر دوراً بارزاً في تصور مستقبل البناء الأوروبي ما بعد حرب الثلاثين عاماً، في إطار الأمن والسلام، ولكن كليهما توفي قبل 1648؛ تاريخ توقيع «معاهدة ويستفاليا» التي أرست أهم ثلاثة مبادئ: مبدأ سيادة الدول، ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، ومبدأ القومية والأمن القومي للدول.
إذا كان المبدآن الأولان (مبدأ سيادة الدول، ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول) من المبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة الذي على الدول الأعضاء الالتزام به نظرياً على الأقل، فإن مفهوم «الأمن القومي»، بوصفه مصطلحاً، يعدّ ملاصقاً للدولة القومية؛ سواء في تفسيره وتطبيقه على المستوى الوطني، من خلال السياسات الدفاعية للدولة ومدى قدرتها على حماية الوطن من التهديدات التي تواجهه، وقدراتها أيضاً في حماية مواطنيها بتوفير مستلزمات الحياة من الخدمات الأساسية في الصحة والتعليم والمواصلات... إلى آخر ذلك.
والمفهوم الآخر لـ«الأمن القومي» يتعلق بقدرة الدولة أو الدول على مواجهة التحديات المحدقة بها من قبل القوى الخارجية، وهل مصادر هذا التهديد تقتصر على المستوى الوطني، أم تتجاوزه إلى تهديد الأمن القومي العربي.
ونشير هنا إلى بعض الأمثلة المتعلقة بالعدوان الثلاثي على مصر في عام 1956 من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، وكيف وقفت الدول العربية والشعوب العربية متضامنة مع مصر حتى من قبَل المناطق العربية التي لم تكن حصلت بعد على استقلالها، مثلما حدث في عدن بجنوب اليمن حين أوقفت النقابات العمالية تزويد البواخر البريطانية بالوقود، وبقية خدمات الموانئ، وهي تحت الاحتلال البريطاني. ومثل نكسة حرب عام 1967 التي تناست فيها المملكة العربية السعودية خلافاتها مع مصر بسبب حرب اليمن، وقدمت الدعم المالي والسياسي في مؤتمر الخرطوم، ليس لمصر فحسب؛ بل أيضاً للدول التي تضررت وخسرت من حرب يونيو (حزيران) عام 1967، لأنها شعرت بأن الأمن القومي العربي كان مهدداً من تداعيات تلك النكسة التي حلت بدول المواجهة العربية.
ولعل أكثر النماذج ذات المدلولات العميقة حرب أكتوبر 1973 التي جمعت بين العمل العسكري والحظر النفطي، ودفعت بدول عدة في تلك المرحلة إلى إطلاق مبادرات عدة؛ منها دعوة لإقامة حوار عربي - أوروبي سمي «الحوار العربي - الأوروبي»، ودعوة لإقامة حوار بين الشمال والجنوب؛ بين الدول الصناعية والدول النامية، الذي دعت إليه المملكة العربية السعودية في الاجتماع الطارئ للجمعية العامة للأمم المتحدة الذي انعقد في أبريل (نيسان) ومايو (أيار) عام 1974 بطلب من الجمهورية الجزائرية، إضافة إلى عقد «منظمة الوحدة الأفريقية» حينها اجتماعاً استثنائياً في نوفمبر (تشرين الثاني) 1973 بهدف توطيد العلاقات العربية - الأفريقية، خصوصاً في سعي الدول الأفريقية المنتجة المواد الخام إلى الاستفادة من تجربة الحظر النفطي للحصول على المزايا التي حصلت عليها الدول العربية المنتجة للنفط برفع أسعاره في الأسواق العالمية وسيطرة الدول المنتجة على مواردها الطبيعية.
هذا هو الحراك الاستثنائي والمكاسب السياسية والمالية التي حققتها الدول العربية حينها. وسنبحث لاحقاً في عناصر النجاح والإخفاقات اللاحقة التي توالت على عدد من الدول العربية لإضاعتها بوصلة الأمن القومي الوطني والأمن القومي العربي.
وللحديث بقية...

مقالة الدكتور محمد علي السقاف
في صحيفة الشرق الاوسط بتاريخ ٨ ديسمبر ٢٠٢٠