آخر تحديث :السبت - 27 أبريل 2024 - 04:29 ص

كتابات واقلام


عقد على ثورات "الربيع العربي"7،6 ،8 ،9 ،10"

الخميس - 25 فبراير 2021 - الساعة 09:28 ص

د. عيدروس نصر ناصر
بقلم: د. عيدروس نصر ناصر - ارشيف الكاتب


عقد على ثورات "الربيع العربي"6

من المؤسف أن الكثير من المتابعين والقراء المهتمين بل وبعض من بقدمون أنفسهم كمحللين سياسين ومعهم بعض الناشطين الإعلاميين ينظرون إلى ثورات "الربيع العربي" بمنظار أحادي أو كما يقول العامة "يا اسود يا ابيض" وهذا النوع من التعامل مع ظاهرة أو ظواهر سياسية-اجتماعية شديدة التعقيد ومتعددة العوامل والمفاعيل والمؤثرات والتأثيرات، لا علاقة لها لا بالسياسية ولا بالعلم، ولا بمنطق الرصد والتحليل، لعدة أسباب لعل أهمها:
أولاً إن هذه الثورات قامت في بيئات مختلفة ومناطق مختلفة وظروف مختلفة وتكمن وراءها أسباب وعوامل مختلفة.
وثانيا أن هذه الثورات انخرط فيها الملايين من ذوي المشارب الاجتماعية والانتماءات الفئوية والمستويات المعرفية والسياسية المختلفة من البسطاء والمثقفين والفئات الاجتماعية ذات الهويات والمصالح المتفاوتة، وهو ما لا يصلح أن نتعامل معه بهذا المنطق الأحادي.
وثالث هذه الأسباب أن ما قد يراه أحدنا حقا قد يراه الآخر باطلا، وما يراه هذا صوابا قد يراه ذاك خطأ والعكس بالعكس.
وبعيدا عن الخوض في تفاصيل ومحاججات لا طائل منها لنتحدث بوضوح، بأن الأنظمة التي تعرضت لسخط الشعوب وغضبها وإعلان التمرد والثورة عليها، لم تكن أنظمة مثالية لا في مستوى معيشة أبناء شعوبها ولا في نجاح مستوى الإدارة والحوكمة وتفعيل القانون، ولا في احترام الحريات العامة وحقوق المواطنة وحفظ الكرامة الإنسانية لأبنائها، ولا حتى في حماية السيادة الوطنية لبلدانها وحمايتها من التعرض للإملاءات الخارجية، حتى لا يقول أحدٌ أن ثورات "الربيع العربي" كانت عملا مؤامراتيا خارجياً، فالخارج قد كان موجوداً ومستمتعاً بكل ما يريده دون أن يحتاج لممارسة أية إملاءات أو ضغوط على الحكام ناهيك عن حبك مؤامرات أو تدبير انقلابات على هذه الأنظمة.
لسنا بحاجة إلى التأكيد على أن ثورات "الربيع العربي" إنما قامت بسبب تدهور منظومة الحقوق في البلدان العربية، بدءً بالحقوق السياسية وكل ما يتصل بها وانتهاء بنظام الخدمات والحياة المعيشية وتوسع مساحة الفقر والبطالة واتساع الفجوة الاجتماعية بين الأغلبية السكانية من شرائح الفقراء والمعوزين وتلك الأقلية من طبقة الأثرياء القادمين في معظمهم من الطبقات الطفيلية التي أثرت من خلال تزاوج السياسة والبيزنيس، بحيث تحول بعض الحكام إلى جزء من طبقة الأثرياء وتفوق بعضهم على أثرى الأثرياء في بلاده، بمقابل تدهور منظومة الحوكمة وتغييب القانون والاحتيال على الدساتير وإعداد الأرضية للانتقال إلى النظام الوراثي، لكن ما يمكن تأكيده هنا هو إن كل هذه العوامل كانت تصنع حالة من انسداد الأفق أمام الأجيال الجديدة التي انتقلت في ظل وجود حكم نفس الحكام من سن الرضاعة والطفولة المبكرة إلى الحياة الجامعية ودخول عالم السياسة والثقافة والتعرف على ما يجري في العالم من تحولات اجتماعية وديمقراطية وخدمية، وشاهد الشباب العربي دول عظمى يتداول فيها الحكم خمسة وستة رؤساء، وحاكم بلادهم لم يتغير على مدى ثلاثة وأربعة عقود، ورأي العالم يدخل مراحل الخدمات المجانية وصناعة الروبوت، وبلاده تذهب من السيء إلى الأسوأ وتستورد إبرة الخياط وقرص الأسبرين من الخارج، وشهد انتقال بلدان عديدة من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، وغيرها من التحولات والمتطلبات التي تفتقدها بلدانهم، وهو ما دفعهم إلى الانخراط في الثورة والمطالبة بـ"إسقاط النظام".
ثورات "العربيع العربي" لم تكن حالة عبثية ولا مؤامرة خارجية ولا حتى نزاع مصالح بين المتنافسين السياسيين في البلد الواحد، بل كانت تعبيرا عن حالة من ذروة اليأس والإحباط والسخط الشعبي تجاه حكام أوصلوا بلدانهم إلى حافة الانهيار وما يزالون يتبجحون بأنهم "صناع المنجزات" و"أبطال المعجزات" و"فرسان العرب والعالم" والخلق الذين لم يخلق الخالق أمثالهم.
أما كون القوى الانتهازية وأصحاب المصالح والطامعين بمزيد من المصالح على حساب معاناة الشعوب قد انخرطوا في هذه المعمعة الشعبية العفوية الهائجة فذلك أمرٌ آخر لا يفقد الثورات العربية مشروعيتها وأحقيتها وعدالة المطالب التي طرحتها منذ يوم انطلاقها.
ماذا حققت ثورات "الربيع العربي"؟؟
هذا ما سنتوقف عنده في متابعة لاحقة
فانتظرونا!

عقد على ثورات "الربيع العربي"7"

يتساءل المشككون بالخلفيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإنسانية لثورات "الربيع العربي": ماذا حققت تلك الثورات؟ ألم تنتج غير الخراب والحرب والدمار والدماء؟
وتلك هي المقولات التي دشن بها إعلام الحكام المتساقطين الأحياء منهم والأموات حملته في وجه الشعوب التي فاض بها الكيل ولم تعد تتحمل المزيد من الحرمان والاستبداد والفساد والعتو، بينما كان هؤلاء الحكام يروجون بأن الأوطان بدونهم تعني الفناء والعدم، ومن هذا المنطلق جاءت فكرة إن ثورات "الربيع العربي" ما هي إلا مؤامرات خارجية، وقال البعض "أمريكية وإسرائيلية" استهدفت الأنظمة الجمهورية ولم تستهدف البلدان ذات الأنظمة الملكية والأميرية، وهنا لا بد من التعرض لثلاث قضايا محورية لتفكيك هذه المقولات الباطلة المغلفة برونق الحق.
فأولا: القول بأن ثورات "الربيع العربي" أنتحت الخراب والدمار والحروب والموت والدماء، هو قول باطل من أساسه، لأن كل ثورات "الربيع العربي" ومنها الثورة الجنوبية، انطلقت سلميةً منذ يومها الأول، وكانت تقدم في كل فعالية عشرات الشهداء والجرحى، ويصر قادتها وناشطوها على مواصلة المسيرة السلمية، وأُنهِكت أجهزة القتل السلطانية من كثرة ما قتلت في المحتجين السلميين، لكن الحكام أوغلوا في استدراج الثوار إلى الحرب وكانت نتيجة حرب الحكام على المواطنين هي ذلكم الخراب والدمار وملايين النازحين والمهاجرين والجوعى والمشردين، وشلالات الدم التي لم تتوقف، فالحكام هم من هدم بلدانهم على طريقة "يا الأسد يا عمنحرق البلد"، وليس الثوار من أشعلوا الحروب والمواجهات المسلحة، وهذا جرى في سوريا وليبيا واليمن.
لكن لنأخذ التجربتين التونسية والمصرية، فقد أدرك الرئيسان التونسي والمصري أن الأفق مسدود أمامهما (بغض النظر عن رأينا في نظامي حكميهما) ، فانسحبا من المشهد بقليل من الدم والقتل، ومضت الأمور بخرائب أقل ودمار أقل ودماء وأرواح أقل هي ثمن لبعض الحماقات التي كانت الأجهزة الاستخبارية والقمعية تحاول إقناع الحكام باتباعها لكنهم تصرفوا بعقلانية أفضل من خدامهم، ويمكن الحديث عن مسارات التجربتين بمزيد من التوسع رفي وقفات لاحقة.
وثانيا: إن الثورات لا تقدم حصادها قبل أن تستكمل إسقاط أنظمة الحكم الاستبدادية، ولمن لا يعلم فإن أشهر الثورات في العصور الحديثة، الثورة الفرنسية والثورة البلشفية والثورة الصينية لم تحصد ثمارها إلا بعد أكثر من نصف قرن من الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية والمجاعات والأزمات والحروب الداخلية والانتكاسات المرة، ولو نظرنا إلى ما حققه المصريون خلال أقل من عقد لاعتبرنا إن هناك معجزة تشهدها مصر العربية في صناعة الاستقرار والنمو الاقتصادي والعمراني والخدمي في ظل حملات تخريب وإرهاب ومكائد من شتى الأنواع.
وإذا كان العامة يقولون "مخرب أعيى مئة بناء" فإن الأمر سيكون مضاعفاً عندما يكون المخرب هو قائد النظام الساقط المصمم على ربط مصير البلاد بمصيره، واستخدام مهارته التي اكتسبها على مدى عقود طويلة للتخريب ولا شيء غير التخريب، ويكون البناء هو الشعب غير المتدرب على الحكم والسيطرة والتحكم وإدارة الأزمات.
ولا يزال اليمنيون يتذكرون تفجير أنابيب النفط وقصف ابراج الكهرباء في مأرب أيام حكومة طيب الذكر محمد سالم با سندوه وهي التخريبات التي توقفت في اليوم التالي لإسقاط صنعاء من قبل تحالف الحوثي وعفاش،
وثالثا: كنت قد أشرت في تناولة سابقة إلى أن الأنظمة الجمهورية التي ثارت عليها شعوبها، لم تثر عليها لأنها جمهورية، بل لأنها خذلت مبادئ الجمهورية التي تقول أن الرئيس من عامة الشعب وتحرم توارث الحكم، ثم إن الوعي الجمعي قد ربط بين ثنائيتين، منذ الخمسينات، حتى بدايات "الربيع العربي" وهما: "إن كل حكم جمهوري هو تقدمي، وكل حكم وراثي هو رجعي"، . . . . كان هذا هو منطق الثورات العربية في منتصف القرن العشرين التي أنتجت تلك الأنظمة الجمهورية، فأين تقدمية تلك الجمهوريات التي صار الاستبداد عنوانها والفساد ديدن حكامها والتوريث هدف من يديرونها والحرمان يشمل أوسع قطاعات شعوبها؟
لقد تبين أن مفهومي التقدمية والرجعية، قد استنفدا مضمونها بعد أن أفرغهما المتسلطون الجمهوريون (التقدميون) من مضمونيهما، وأن البديل لهما هو الحق والحرية والعدل والكرامة الإنسانية والنهوض العلمي والمعيشي والتكنولوجي والخدمي ، وأن الناجح في هذه المتطلبات سيكون تقدمياً جمهورياً كان أم ملكياً، أما الفاشل فحتى لو جاء بالعقد الاجتماعي للثورة الفرنسية فهو رجعي ومنتهى الرجعية حتى وإن سمى نفسه جمهورياً.
إن عدم قيام ثورات في البلدان الملكية والأميرية، يعود إلى أسباب أخرى لا علاقة لها بطبيعة نظام الحكم، ولكن بمقدار الاستقرار الاقتصادي والمعيشي والخدمي في هذه البلدان، أما موضوع الحريات العامة وحقوق الإنسان فمع تسليمنا بأن هذين المفهومين فضفاضين ويمكن تأويلهما عشرات التأويلات، فإنه يمكننا القول إن لا أحد يستطيع المزايدة على أحد، ومن هنا فلم تكن قضية الحقوق والحريات في البلدان الجمهورية أفضل مما هي عليه في البلدان ذات الأنظمة الوراثية (الملكية والأميرية) وأستطيع الجزم أن التجربة الكويتية والأردنية والمغربية (وكلها في أنظمة وراثية ) أفضل بألف مرة من جمهوريات علي عبد الله صالح وزين العابدين بن علي والشهيد معمر القذافي وسواهم.
ونأتي لقصة المؤامرة الخارجية، وأشير إلى أن أقوى أجهزة صناعة المؤامرات والانقلابات والمذابح في العالم، (المخابرات الأمريكية) لم تستطع إسقاط دولة صغيرة تقع على بعد عشرات الكيلو مترات من شواطئ دولتها العظمى، أعني هنا جمهورية كوبا، لسبب بسيط وهو أن الشعب الكوبي اختار الانحياز لقضيته ووطنه، وحتى عندما فتح الرئيس الأمريكية نيكسون الحدود للمهاجرين الكوبيين، فتح كاستروا الأبواب لكل من يريد الذهاب إلى أمريكا، فلم يذهب إلا المجرمون واللصوص والقتلة والمنخرفون، وشكلوا معضلة كبيرة للنظام الأمريكي ولمخابراته التي دبرت عشرات الانقلابات على الأنظمة التي خرجت عن طوعها في أمريكا اللاتينية، أما الشعب الكوبي الذي كان يرى كرامته وحريته تكمن في التعليم المجاني والتطبيب المجاني والوفرة شبه المجانية في التغذية والتسكين وفرص العمل والنقل والخدمات، رغم كل الحصار فقد تمسك بثورته ونظامه الوطني المعادي للتبعية والاستعمار، والشاهد هنا إنه لو كانت الشعوب العربية متمسكة بأنظمتها لما أسقطتها أية مؤامرة حتى لو كانت من ألد أعداء الحكم، فما بالنا والمتهم بهذه المؤامرة ليس سوى الصديق الوفي والمدافع الأمين عن كل لتلك الأنظمة الاستبدادية المتهالكة.
وأخيرا أمريكا لم تتآمر ولن تتآمر على أصدقائها أما إسرائيل فلا يد لها عند تونس وليبيا واليمن، وحتى سوريا، لكن لو تسلل ممثلو هؤلاء إلى الداخل الوطني فبسبب عدم حصانة تلك الأنظمة، وبدلا من ذلك بسبب استعدادها لمواجهة شعوبها أكثر من استعدادها لاستقطاب هذه الشعوب حتى تحت قيادتها لحماية الوطن.
لست بصدد الدفاع عن المنظومة الإمبريالية العالمية، وعلى رأسها أمريكا لكن ما كتبه أوباما وهيلري كلنتون يقول وبالمفتوح أنهم يأسوا من إمكانية الاستمرار في حماية أنظمة تمقتها شعوبها، وإنهم سعوا للبحث عن قوى أكثر شعبية من هؤلاء الحكام المستهلكين، وقد أخطأ الأمريكان في التقدير وربما أصابوا في بعض الأماكن، لكن الأمريكان ليسوا ملائكة ولا منزهين، ولا هم حتى جمعيات خيرية ليوزعوا الحريات بالأكياس بل هم يبحثون عن أصدقاء يضمنون لهم مصالحهم وقد فشلوا عندما راهنوا على حركة الإخوان المسلمين.
وللحديث بقية.


عقد على ثورات "الربيع العربي"8

أين أصابت ثورات "الربيع العربي" وأين أخطأت ولماذا؟
أعيد وأكرر مرة أخرى التأكيد على إنه لا يمكن النظر إلى ظاهرة معقدة ومتعددة الأسباب والعوامل كما هي "ثورات الربيع العربي" من زاوية ما إذا كانت صواباً أم خطأً، لأن الصواب والخطأ مفهومان نسبيان، فما قد يراه هذا صواباً قد يراه ذاك خطأً، وما قد يكون صواباً في مكانٍ ما يمكن أن يكون خطأً في مكانٍ آخر، وما قد يكون اليوم صواباً قد يغدو بعد عقد أو عدة عقود من الزمن خطأ، وباحتصار فإنه لا يوجد صوابٌ مطلق ولا خطأٌ مطلقٌ في ما يتعلق بالحركات الاجتماعية والسياسية ومنها ثورات "الربيع العربي".
لكن لندع هذا جانبا ونعود إلى النقطة التي تناولناها منذ البداية، وهي: إن ثورات الربيع العربي لم تكن عملاً ملائكياً خالياً من العيوب والأخطاء والنواقص بل والشطحات والحركات والمواقف الطائشة، لكننا سنرجئ الحديث في هذه الجزئية إلى مقام آخر، ونبدأ بالأهم وهو ماذا قدمت ثورات "الربيع العربي" لللشعوب التي فجرتها وانصهرت في أتونها وعلقت عليها آمال الملايين من أبنائها، أو بالتحديد ما هي التغييرات الإيجابية التي أحدثتها تلك الثورات في بنيات المجتمعات التي انطلقت فيها؟
لقد أمضت الأنظمة الاستبدادية في الجمهوريات التي انطلقت فيها "ثورات الربيع العربي"، أزمنةً متطاولة وصلت عند البعض إلى أربعة عقود وبضع سنين والبقية بين العقدين والثلاثة عقود وما فوق، ظل كل نظامٍ من تلك الأنظمة يقدم نفسه على إنه النموذج المثالي الذي لا يمكن أن يأتي ما هو أفضل منه، وبدأت حملة تقديس الزعيم وتجلت بدايات لما يسمى في الأدبيات السياسية العالمية "عبادة الشخصية" (Cult of Personality) حيث بدأ إعلام الحكام يقدم الزعماء على أنهم استثناءات تاريخية لا تتكرر وراح ينسب لهم المنجزات غير الموجودة أو يضخم بعض المشاريع العادية التي صنع آخرون عشرات أمثالها دون أن يسلطوا عليها الضوء، راح هذا الإعلام يقدم تلك المشاريع على إنها معجزات تاريخية ما كانت لتتم لولا الزعيم الرمز، والقائد الفذ والفارس النبراس، وهلمجراء، وتحول تقديس نظام الحكم إلى متلازمة مع تلك الهالات المتضخمة من تقديس الزعيم، واختزال الوطن والشعب والأمة في شخص الزعيم، فصار كل من يتناول بالنقد بعض الظواهر المتصلة بسوء إدارة البلاد أو المظالم الحقوقية أو حتى السلبيات العادية في أداء أجهزة السلطة وضعف الخدمات أو غياب القانون، صار كل من يتناول هذا يُصًَنَّف على إنه يعادي الوطن ويسيء إلى سمعته، وقد اشترك في هذا النهج نظام الحكم في البلدان التي شهدت ثوارت "الربيع العربي" وأتذكر من التجربة اليمنية، أنه وعندما أثيرت قضية تهريب الأطفال، وكذا ظاهرة ما سمي بالزواج السياحي، ، وقد تصدى لهذه القضية صحفيون ونواب متميزون أذكر منهم النائب القاضي أحمد سيف حاشد، وكان حينها مقرر لجنة الحقوق والحريات في البرلمان اليمني، حينها قامت الدنيا ولم تفعد وقال رئيس مجلس النواب وبعض الأعضاء إن من شأن إثارة مثل هذه القضايا الإساءة إلى سمعة الوطن وتشويه صورته أمام العالم.
كما إن إثارة ملف التوريث من قبل صحيفة الشورى التي كانت تصدر عن حرب "اتحاد القوى الشعبية"، وكان يرأس تحريرها الصحفي عبد الكريم الخيواني عليه رحمة الله، وهو من الذين أعلنوا في ما بعد تأييدهم للحركة الحوثية، هذه الإثارة قد دفعت أجهزة الأمن إلى افتعال مختلف أساليب الاحتيال لإغلاق الصحيفة، ويوم ما صدر الحكم القاضي بإغلاقها، وتضمن حينها حق الاستئناف، لم تنتظر الأجهزة الأمنية التوجيه بتنفيذ الحكم ناهيك عن إكمال فترة حق الاستئناف بل هجمت ليلا على مقر الصحيفة، وتم اعتقال الصحفي عبد الكريم ولم يخرج إلا بعد أشهر من عذاب المعتقلات بـ"عفو رئاسي " لا يمثل سوى إيقاف الاعتداء الذي تعرض له الرجل.
ومثلما جرى مع الصحفي الخيواني، جرى مع محمد المقالح الذي تعرض للاختطاف ليلا، وأنكرت كل الأجهزة النيابة والأمنية علمها بمكان وجوده، لكنه ظهر فجأة في محكمة القضايا الخاصة، وقال بعض الساخرين إنه يحاكم عقابا لتعرضه للاختطاف على يد ممن قيل إنهم مجهولين
ومثل ذلك ما جرى مع الصحفي البارع خالد ابراهيم سلمان رئيس تحرير صحيفة الثوري الصادرة باسم الحزب الاشتراكي اليمني، وقد قدم للمحاكمة على خافية 13 قضية من بينها قضايا تتعلق بالمساس بالذات الرئاسية، ولولا اضطراره إلى طلب اللجوء السياسي لقبع في السجون سنينا على الأقل.
أما قضية صحيفة الأيام وملفها الشائك فيستدعي التوقف عندة عدة مجلدات ، لكننا نكتفي بالإشارة إلى أن عجز النظام عن تلبيسها أية قضية تتصل بالقانون دفع المخابرات إلى تدبير قضية النزاع على أرضية ومبنى الأيام، وقتل أحد جنود الحرس الجمهوري وتلفيق القضية على المناضل أحمد عمر العبادي المرقشي الذي كان يعمل حارسا في الصحيفة ودفع من حياته عشر سنوات في السجن المركزي ظلما وعدوانا وتلى ذلك الهجوم المسلح على مبنى الصحيفة في عدن واعتقال رئيس تحرييرها الفقيد هشام با شراحيل وإغلاق الصحيفة التي لم تعاود الصدور إلا بعد تحرير عدن في العام 2015م.
الشاهد من كل هذه الإشارات أن الأنظمة الدكتاتورية لم تكتف بتضخيم صورة الزعيم واختزال الوطن في شخصه بل اتبعت أبشع أشكال القمع والتنكيل والإرهاب ضد كل صوت يمكن أن يتعرض لسلبيات نظام الحكم وكشف فساده وتعرية حقيقة طبيعته الاستبدادية والسلطانية.
إن اندلاع ثوارت "الربيع العربي" قد أحدث هزة عنيفة في بنية الأنظمة الاستبدادية، وزلزل تلك الصورة النمطية لنظام الزعيم الذي لا تهزه الرياح، ولا تقهره العواصف، "ولا يمكن للشعب الذي يهيم به حباً أن يرفضه"، كما كانت أجهزة الإعلام والاستخبارات تصور الوضع للزعماء، أو كما كان الزعماء يتصورون أنفسهم.
فب البلدان التي أدرك فيها الحكام حقيقة الوضع فضلوا تجنب المواجهة مع الشعب فكانت النتيجة انتقالا أقل خشونة إلى المسار السياسي، وأنا هنا أتحدث عن الحالة التونسية والحالة المصرية، وربما جاءت الحالتان الجزائرية والسودانية في ما بعد بنفس السياق مع تباينات في موقف الجيش وتدرج الخطوات تبعا لحجم التعقيدات والتحديات المتباينة، ولمن يستصغر هذه النتائج أن يتذكر أن الخيار البديل للأنظمة في البلدان الأربعة كان يمكن أن يكون أنهاراً من الدماء ومساحاتٍ من المقابر، للضحايا المدنيين والعسكريين وملايينَ المشردين والنازحين (في الداخل والحارج) وما تجارب سوريا واليمن وليبيا عنا ببعيدة.
وهناك نتائج فرعية لهذه النتائج لهذه التحولات السلمية، إن جاز أن نسميها، منها إن الشعوب التي نجحت في الانتقال السلمي قد تعلمت عدم تقديس الزعماء وممارسة حق الاعتراض والاحتجاج، وحتى حق المطالبة باستبعاد الزعامات الفاشلة حتى ولو جاءت من ميادين الثورات أو امتطت صهواتها للوصول إلى الحكم.
لماذا أخفقت بقية التجارب العربية؟؟
هذا السؤال الصغير يتطلب إجابات كبيرة وموسعة ومتشعبة قد لا تكفي لها مقالة أو مقالتين، لكننا ينتوقف عند أهم تعقيداتها في حلقة قادمة
فانتظرونا


عقد على ثورات "الربيع العربي"9

قبل الاسترسال في تناول أسباب الإخفاقات التي تعرضت لها بعض ثورات "الربيع العربي" سأعود إلى التوقف عند بعض الملاحظات التي لا ترى في هذه الثورات سوى مؤامرة أمريكية وصهيونية خارجية تستهدف الإطاحة بالأنظمة التقدمية التي تعادي أمريكا وإسرائيل، وهنا أذكر، أنه وباستثناء الرئيس الليبي معمر القذافي ورئيس سوريا حافظ الأسد ومن بعده وريثه بشار، فإن بقية الأنظمة كانت من أفضل أصدقاء أمريكا، وقد قيل أن أحد هؤلاء الزعماء، وبعد حوادث 11 سبتمبر وبعد تفجير المدمرة الأمريكية USS Cole ذهب إلى الرئيس الأمريكي بوش الإبن الذي كان متعطشا لشن الحروب وتدمير واحتلال بلدان وإسقاط زعامات وقدم له ورقةً بيضاء وقال له أكتب فيها ما تشاء وأنا سأوقع ، وكانت اتفاقية فتح الأجواء في ذلك البلد للطيران الأمريكي بطيار وبدون طيار ليقصف حيث يشاء ومتى يشاء، وقس على ذلك بقية البلدان.
إن الحكام الحمقى لا يعترفون بنواقص حكمهم بل يصورون أنظمتهم على إنها أنظمةٌ ملائكيةٌ لا يأتيها الخطأ من بين أيديها ولا من خلفها، وبدلا من التنازل الصغير لشعوبهم يدمرون بلدانهم فيدفعون هم وشعوبهم أضعاف الخسائر التي كان يمكن تحملها لو أنصتوا لصوت الشعب.
كل الأنظمة في الجمهوريات التي تمردت عليها شعوبها من مصر إلى اليمن ومن سوريا إلى الجزائر ومن تونس وليبيا إلى السودان كانت أنظمة ديكتاتورية واستبدادية وفاسدة، وأقلها ديكتاتورية كان يجري انتخابات صورية يتحكم في نتيجتها قبل فرز الأصوات بل وقبل إجراء الاقتراع، وأرجو أن لا يقول لي أحد أن المعارضين كانوا أقل شعبية من الحكام أو إن الشعب كان يهيم حبا بهؤلاء الحكام لأن روائح فسادهم واستبدادهم قد بلغت أقاصي الدنيا، وبالتالي فإن عوامل الثورات عليهم كانت قائمة وجاء انتحار الشاب التونسي محمد بو عزيزي ليمثل القشة التي قصمت ظهور جمالهم المنهكة بالمفاسد والمظالم والمتهالكة بالاستبداد المكشوف والخفي، وليلعب دور الشرارة التي أشعلت الهشيم المبتل بالزيت القابل للاشتعال.
ولكي لا نقفز على دور الخارج في اختراق صفوف الثورات والثوار وحرف مسارات الثورات عن طريقها الذي أرادتها الشعوب نشير إلى أن المؤامرات الخارجية واردة وغير مستبعدة في كل حال ممن الأحوال، لكن عيب بعض الذي يسوقون هذه النظرية أنهم يعتبرون ملايين الشباب ومنهم من سقط شهيدا ممن تجندوا لمقاومة الطغاة، يعتبرونهم عملاء للمؤامرة الخارجية، وهذا إما خلط متعمد روجت لها مخابرات الأنظمة وإعلامها، وإما تسطيح غير متعمد (وربما متعمد) للأحداث والحقائق، وهنا لا ينبغي أن نلوم الشعوب التي انتفضت ضد الظلم والتجويع الفساد والقمع والاستبداد، ولا حتى مراكز المخابرات والإعلام الإقليمية والدولية، لتدخلها في حرف الأحداث وتحويلها من ثورات سلمية إلى حروب داخلية أهلكت الأخضر واليابس تنفيذا لأجندات مراكزها العليا، بل إن اللوم يقع على الحاكم الذي يشن الحرب على شعبه ويفتح أبواب الفوضى لكل منحرف ومعتوه ولكل مراكز الاستخبارات والتخريبات لتعبث ببلده التي كان بإمكانه حمايتها بالشعب وليس محاربة أمريكا وإسرائيل من خلال الحرب على الشعب.
ولتجنب الإطالة والإسهاب في هذه القضية سأختصر أسباب وعوامل فشل الثورات الربيع العربي في اليمن وليبيا وسوريا في ما يلي مع الإقرار بالتفاوت والتباين في العوامل والأسباب من بلد إلى آخر:
1. لقد انطلقت الثورات عفوية من قبل قطاعات غفيرة من المواطنين ولم تكن هذه الثورات تملك قيادات سياسية لها برامجها السياسي محدد المعالم والأهداف والاسترتيجيات والتكتيكات، واكتفت بشعار "إسقاط النظام" ولم تحدد ماذا بعد هذا الإسقاط.
2. وحيثما انحازت المؤسسات العسكرية إلى الشعب أو لنقل وقفت على الحياد، وحرصت على حماية حدود البلد وسيادتها انتقلت الأمور بسلاسة، وإن كانت ما تزال تتعرج في سيرها نحو المآلات النهائية، لكن حيثما وقفت المؤسسة العسكرية مع الحاكم واشتركت في قتل الشعب، تسبب هذا في الحروب الأهلية التي ما تزال مآلاتها مجهولة حتى اللحظة رغم الخسائر الهائلة والتدمير الفظيع الذي تعرضت له البلد، وباختصار فإن غياب الرؤية السياسية والقيادة السياسية، تسبب في توهان الثورات عن أهدافها.
3. إن إطالة أمد المواجهة بين الشعب ونظام الحكم قد فتح البوابات على مصاريعها أمام كل الأطراف الراغبة في العبث بالبلد ومستقبلها، فدخلت المخابرات الدولية، وتدخلت الجماعات الإرخابية وشاركت بعض البلدان المجاورة لتصفي الحسابات مع الحكم ومع الشعب ، وما تجربة انتحال تركيا لدور الداعم للثورة السوريه ثم التدخل في الأراضي السورية وتدمير الثورة من داخلها سوى مثال حي على ذلك,
4. وحيثما حضر تنظيم الإخوان المسلمين قام هذا التنظيم بحرف مسار الثورة وتحويلها من أداة للتغيير إلى وسيلة لتنفيذ أجندة التنظيم الدولي، وقد أتوقف عند هذه القضية في حلقة خاصة من هذه السلسلة.
5. انشقاق بعض أجنحة الأنظمة الديكتاتورية عن أنظمتها والتحاقها بصف الثورة والثوار، إما هرباً من سفينة النظام الموشكة على الغرق أو تصفيةً لحسابات مع الجناح الآخر من النظام، مما تسبب في تحويل الثورة من ثورة شعبية إلى أداة صراع بين أجنحة النظام، وبالتالي حرف الثورة عن مساراتها وانسداد الآفاق أمام آمال وتطلعات الثوار الذي أشعلوا الثورة.
وللحديث بقية


عقد على ثورات "الربيع العربي" 10

الثورات والإخوان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقع الكثير من الإعلاميين ومن يسمون أنفسهم بالمحللين السياسيين في خطأ كبير حينما يقولون أن ثورات الربيع العربي هي "فوضى الإخوان" والبعض يزيد إنها "ثورات قناة الجزيرة" القطرية، وهذا الوصف أو التسمية أو الادعاء لا يقوم على قراءة موضوعية واستبطان وافي ودقيق للحظات وعوامل وأسباب اندلاع ثورات الربيع العربي وهو في الغالب الأعم ينطلق من عدم الرضى عن هذه الثورات، أو البحث عن اتهامات لجماعة الإخوان المسلمين في المكان الخطأ، والأمر ينطبق على من ينسبون هذا الشرف إلى قناة الجزيرة القطرية، وسنتحدث عن تفاصيل هذه الجزئية في سياق حديثنا هذا، لكن مما لا بد منه هنا هو الإقرار بأن إسناد انطلاق ثورات الربيع العربي إلى جماعة الإخوان السلمين، وضمناً إلى قناة الجزيرة، هو أمر فيه إهانة للشعوب والقوى المدنية المليونية التي تصدرت هذه الثورات، وهو بنفس الوقت منح شرف لجماعات الإخوان المسلمين هي منه براء.
وكما كنا قد أكدنا ونحن نتحدث عن القوى التي فجرت ثورات الربيع العربي، فإن من تصدر المشهد في الأيام والأسابيع الأولى لهذه الثورات كان مجموعة من الشباب والمثقفين والأكاديميين والعمال والعاطلين عن العمل أو المبعدين عن أعمالهم من العسكريين والمدنيين (كما هو الحال في جنوب اليمن) ومعظم هؤلاء، على تفاوت مهاراتهم السياسية ومستوياتهم العلمية والأكاديمية، لم يكونوا قد اكتسبوا الخبرة الكافية في قيادة السياسة والخوض في تعقيداتها ورسم الاستراتيجيات واختيار التكتيكات المناسبة، ناهيك عن التعامل مع ألاعيب ودسائس الأنظمة وما تمتلكه من خبرة في صناعة الفبركات وابتكار الحيل السياسية، لكنهم (أعني الذين فجروا الثورات) مع ذلك هزَّوا أركان الأنظمة المتسلطة، التي اعتقد أساطينها أن لا قوة تؤثر عليها ولا عاصفة يمكن أن تهزها، وكما تطرقنا بأن حركة الإخوان المسلمين كانت آخر من قرر الالتحاق بميادين الثورات السلمية بعد أن ترددت طويلا وبقيت تنتظر موازين القوى إلى أين تتجه حتى تقرر أين ستتوقف، لكن هذا الالتحاق تحول إلى هيمنة واختطاف كما هي عادة الإخوان المسلمين في كل عمل يشاركون فيه أو يقودونه.
لقد كان اختطاف الإخوان المسلمين لحركة الاحتجاجات السلمية واحداً من أسباب انحراف بعض الثورات العربية عن مساراتها وتحويلها من أداة للتغيير الداخلي في كل بلد إلى أداة لخدمة التنظيم الدولي، الذي يسعى إلى إقامة دولة الخلافة الإسلامية على المستوى العالمي.
وقد يستدعي الأمر بعض التفاصيل مما نعرفه عن سير الأحداث في بعض البلدان.
ففي مصر مثلاً بقيت جماعة الإخوان بعيدة عن الميدان، وصدرت بيانات من قيادة التنظيم تحذر فيها (القيادة) من السير بالبلد نحو المجهول، وحينما أعلن الرئيس مبارك قرار التنحي وأسند إدارة البلد إلى المجلس العسكري سارع الإخوان إلى التنسيق مع المجلس العسكري بينما استمرت الاحتجاجات معتبرة تنحي مبارك لا يكفي، وحينما رأى الإخوان الإصرار الشعبي على حتمية التغيير الجذري وعدم الاكتفاء بإسقاط مبارك وحده، انتقلوا إلى الميدان واقتحموا الساحات وأغرقوها بحضورهم الكثيف وتفوقهم العددي والتنظيمي والمالي، حتى آلت الأمور إلى ما آلت إليه، ويرى بعض شباب الثورة أن التحاق الإخوان بميادين الاحتجاجات جاء بالتنسيق مع المجلس العسكري، ليتمكن الطرفان من التحكم بمسارات الثورة وتطوراتها ونتائجها اللاحقة.
ولا بد من الاعتراف أن المجلس العسكري قد قاد البلد بروية وتؤدَّة بغض النظر عن الملاحظات العديدة على سيرة الأمور في فترة ما بعد تنحي مبارك، أما بعد الانتخابات التي دخلت فيها جماعة الإخوان بقوتها المالية والعددية وقدرتها على التنظيم مستقلةً تفكك جبهة القوى السياسية الأخرى وبعد فوز الجماعة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية في مرحلة لم تكن فيها الأوضاع السياسية مهيأة لإجراء انتخابات تنافسية متكافئة، فقد جيش الإخوان على الدولة وأقدموا على ما أسماه المصريون بـ"أخونة الدولة" ولو لم ينتفض الشعب المصري في وجوههم لكانت مصر اليوم مثل أفغانستان وعلى الأقل مثل تركيا، موطنا للجماعات الإرهابية المتطرفة ومصدرا لإيذا بلدان الجوار، ولغاب عن مصر وجهها التاريخي الحضاري والمدني، ولربما أقفلت جامعات وحظرت مكتبات ومسارح وأُغلقت متاحف ودور سينما وتحولت دار الأوبرا المصرية الشهيرة إلى صالة للعزاء.
وما زلت أتذكر لقاء أجرته إحدى محطات التلفزة مع وزير الإعلام الإخواني (لم أعد أتذكر اسمه) في ظل حكم محمد مرسي الله يرحمه، عندما سأله المذيع ما هو أهم إنجاز حققته الوزارة في ظل وجودك، قال لقد سمحت لأول مرة للمذيعة أن تظهر محجبة، معتبرا ذلك منجزاً تاريخيا للشعب المصري كان يستدعي ثورة شعبية شاملة كثورة 25 يناير.
وفي ليبيا سارت الأمور على ما نحو مرضٍ في السنتين الأولى والثانية، وجرت انتخابات لما عُرف بالمؤتمر الشعبي الليبي (البرلمان) لمرحلة انتقالية مدتها سنتان، تلتها الانتخابات البرلمانية الأولى التي فقد فيها الإخوان الأغلبية، فرفضوا النتيجة واعتصموا في طرابلس واتهمو الأغلبية بقيادة عقيلة صالح بالتمرد، وراحوا يطالبون بإعادة الانتخابات لتنتقل ليبيا إلى ميدان حرب وساحة نزاع بين الجماعات المسلحة ولتنتقل التنظيمات الإرهابية الدولية إلى طرابلس داعمة جماعة الإخوان المسلمين، وبقية القصة يعرفها الجميع.
أما التجربة اليمنية فقد تحدثت عنها مطولا في منشور سابق، لكن ما يمكن التأكيد عليه هنا هو إن الإخوان في التجمع اليمني للإصلاح تحولوا من مؤيدين للثورة الشبابية السلمية إلى أوصياء عليها ومن ثم خاطفين لها، وعندما أعلن قائد الفرقة الأولى مدرع الانضمام إلى الثورة (وهو القائد العسكري المقرب من الإصلاح، ويسميه البعض قائد الجناح العسكري للإصلاح) تحولت الثورة السلمية إلى مواجهة مسلحة بين جناح في السلطة وجناح آخر منشق عنها وقد انتقلت أخونة الثورة من الهيمنة على المنصات، إلى الهيمنة على أجهزة السلطة في الحكومة ، أثناء حكومة الوفاق برئاسة طيب الذكر الأستاذ محمد سالم با سندوه، ومثل هذا جرى في الهيمنة على مؤسسة الرئاسة والاستحواذ على أغلب حِصَّة أحزاب المعارضة، وشباب الثورة من المواقع الفاعلة من أجهزة الدولة، وكما قلنا في مقال سابق فإن هؤلاء هم من يشكلون اليوم جهاز "الدولة العميقة" المسافر مع الشرعية في الداخل والخارج حيثما حلت وفي أي فندق أقامت.
وربما تميزت التجربة التونسية قليلا عن التجربتين المصرية واليمنية، في إن الإخوان المسلمين تعايشوا في البدء مع القوى الأخرى، وجاء اختيار الدكتور المنصف المرزوقي لرئاسة الجمهورية كخطوة تكتيكية ذكية تُحسَب لحزب النهضة، لكن الإخوان ظلوا يعملون في الخفاء على استمالة الكثير من القوى المتطرفة لادخارها إلى وقت الحاجة، ويتذكر الجميع قضية الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي الذين اغتيلا في ظروف غامضة، ولم تتمكن أجهزة التحقيق حتى اللحظة من الوصول إلى أي نتيجة للكشف عمن يقف وراء جريمة اغتيالهما، مثلما يتذكرالجميع اللقاء الذي جمع السيد راشد الغنوشي، رئيس حزب النهضة، بمجموعة من الشباب من أتباع السلفية الجهادية حينما قال لهم ما معناه: دعونا نتمكن وسنتخلص لكم من كل هؤلاء اليساريين المزعجين.
وما تزال تونس حتى اليوم تعج بالمتناقضات والنزاعات التي يتصدرها حزب النهضة وهو يصر على تحويل أغلبيته البرلمانية إلى وسيلة للقفز فوق الدستور وفوق السلطات الشرعية بما في ذلك رئيس الجمهورية المنتخب السيد قيس إسعيد، وتبرهن كل المؤشرات على أن محالاوت حرف مسار التغيير السلمي في البلاد ما تزال تتفاعل وتتصاعد على الساحة التونسية ما بقي الإخوان هم المهيمنون على المشهد السياسي.
أما التجربة السورية فقد تميزت بتمكين الإخوان المسلمين من خلال الحليف الرئيسي الذي اختطف الثورة السورية وحولها إلى أداة لمشاريعه التوسعية في المنطقة العربية، وأعني هنا حزب العدالة والتنمية التركي، الذي يعتبره الإخوان المسلمون في كل العالم مرجعيتهم الحاكمة ومركزهم العالمي في اللحظة الراهنة، ويعلم كل من تابع مسار الثورة السورية منذ أيامها الأولى ثم عند تأسيس المجلس الوطني السوري الذي تصدرت قيادته مجموعة من الأكاديميين والمثقفين السوريين مثل البروفيسور الدكتور برهان غليون والمفكر ميشيل كيلو ورجل الاقتصاد د.عارف دليلة والسجين السياسي السابق جورج صبره وعبد الباسط سيدا وغيرهم، أن هذه المجاميع المدنية قد جرى تقليصها وانسحب بعضها احتجاجا على تسليم زمام الأمور لرجب طيب أردوجان الذي لحزبه ودولته حسابات تاريخية معقدة مع الشعب السوري ودولته منذ اختطاف لواء الإسكندرونة السوري ومنذ زمن النزاع مع حزب العمال الكوردستاني التركي بقيادة الأسير عبد الله أوجلان الذي كان يدعمه النظام السوري ثم تخلى عنه تحت التهديد التركي زمن الرئيس التركي تورجات أوزال.
وباختصا شديد يمكننا القول إن حضور الإخوان المسلمين في ثورات الربيع العربي قد ألحق بها من الأضرار والخسائر الكثير والكثير ولم يضف لها قيمة إيجابية كبيرة تساعد على بلوغها غاياتها في بناء دولة مدنية تتسع لكل أبناء البلد بأطيافهم السياسية والفكرية وانتماءاتهم الجهوية والاجتماعية، وحتى الكثافة العددية والقدرة على التنظيم والقوة المالية الهائلة التي تتمتع بها جماعات الإخوان المسلمين على الصعيدين القطري والعالمي تحولت من عامل قوة ونماء إلى عامل اختطاف وهيمنة على "ثورات الربيع العربي"، وستبقى العملية صراعية بين مشاريع المدنية والديمقراطية والإعمار ودولة المؤسسات وبين أنظمة الاستبداد والتسلطة بمختلف أشكالها العسكرتارية الرسمية والإسلام السياسي بمختلف مسمياته التي تسعى إما لإقامة دولة الخلافة على الصعيد العالمي، إو لإقامة دولة ولاية الفقية وكل هؤلاء لا علاقة لهم بمعاناة الشعوب وآلامها ولا بتطلعات هذه الشعوب وأحلامها وآمالها المستقبلية مهما كانت متواضعة.