آخر تحديث :الجمعة - 19 أبريل 2024 - 08:01 م

كتابات واقلام


مصطفى .. وتاريخ تزينه المآثر والبطولات

الثلاثاء - 21 فبراير 2017 - الساعة 10:42 م

قاسم داؤود
بقلم: قاسم داؤود - ارشيف الكاتب


غـاب الذيـن أحبـهم .. وبقيـتُ مثـل السيـف فـردا عمرو بن معدي كرب وكأن الفواجع والأحزان التي أصابتنا وحلت بنا، وكدرت الحياة، وألبستها السواد جراء فقد أحبة وأعزاء، رحلوا تباعاً إلى عالم الخلود الأبدي، قليلة وأخف على المرء، حتى يأتي الأشّد وطأة .. والخبر الصادم الذي كان له وقع الصاعقة، وفاة الهامة الوطنية والمناضل الاستثنائي، الإنسان الرمز عبد الرب علي محمد العيسائي (مصطفى) أبو مصطفى، الذي أسلمت روحه الطاهرة لبارئها بتاريخ 3/2/2017م، في مدينة جدة التي وصلها في وقت سابق قادماً من عدن لإجراء فحوصات. أنه المكتوب، وقضاء الله وقدره، وحكم إرادته، التي لا مرد لها ولا اعتراض عليها، فله وحده الحمد والشكر على ما خلق وأعطى، وعلى ما أخذ. حقاً لقد رحل عن هذه الدنيا، وبعد عمر مديد زاخر بالعطاء والتفاني، رجل الأعمال والمآثر الوطنية والإنسانية، أحد ألمع وأبرز ثوار حرب التحرير الوطنية، الذي صال وجال خلالها على أرض مدينة عدن الباسلة قلب الجنوب المعطاء، مع بقية رفاق دربه، ومع كل القوى التي صنعت بنضالها المسلح السياسي والشعبي والإعلامي والاجتماعي وجماهير الشعب عامة ملحمة ثورة التحرير 14 أكتوبر، وحققت الاستقلال الوطني الناجز في نوفمبر 1967م، وقيام الدولة الوطنية المستقلة، التي وحدت في إطارها ولأول مرة أرض الجنوب وشعبه، بعد تشتت تاريخي، اتسع إلى أكثر من ثلاثة وعشرين كيان، وهو الحدث التاريخي الذي لا يقل أهمية عن دحر الاحتلال الأجنبي، وأن تقدم عليه في الأهمية والتأثير والمكانة، والذي مكن الجنوب من احتلال مكانته الطبيعية في النظام الرسمي العربي والقاري والدولي، واكتساب صفته الشرعية كدولة مستقلة ذات سيادة بحدودها المعترف بها، وكان هذا الإنجاز التاريخي أول محاولة ناجحة لقيام كيان دولة مؤسسية موحدة في الجنوب. رحل أبو مصطفى الذي لعب دوراً مشهوداً، ووضع بصماته وسجل اسمه بأحرف من نور في مسار بناء الدولة الوطنية، وأجهزة ومؤسسات النظام السياسي الجديد والسلطة الناشئة، وبالذات في ميدان بناء وتطوير مؤسسات الأمن، التي أوكلت لها إلى جانب القوات المسلحة مهمة السهر والذود على سلامة الوطن وأمنه وأمن مواطنيه وحفظ النظام العام وسيادة القانون، وهو دور لم يكن معزولاً عن المجالات الأخرى والوضع العام برمته، بل كان في قلبها. ورغماً عن كل الذي حدث طوال المراحل اللاحقة، فقد ظل الفقيد ثابتاً مع خياراته الأولى، وبذات القدر من الإرادة والتصميم والاستعداد للتضحية التي ميزت دوره في المرحلة الأولى من التحاقه بمسيرة الثورة، مخلصاً ووفياً لذات الأهداف (الحرية، الاستقلال، وبناء الدولة، ومستقبل يليق بشعب الجنوب المعطاء، وبما يحقق تطلعاته وآماله). رحل مصطفى الإنسان منهياً بهذا الحدث الجلل سيرة حياة عطرة دامت قرابة الخمسة والسبعين عاماً، جسد الفقيد خلالها وعلى نحو خلاق ومثالي أسمى وأرفع القيم والصفات والمُثل الإنسانية، التي أكرمه بها خالقه، وأكتسبها في حياته، ومنها الإخلاص والوفاء والشهامة والشجاعة والتواضع، وحب الآخرين ونكران الذات إلى جانب غيرها من الصفات المهنية. وتدل القراءة الموضوعية المنصفة لمسيرة الفقيد النضالية والعملية، وكما هو حال آخرين من زملائه ورفقائه ومن الرعيل الأول بالذات، كم كانوا مفرطين في تكريس السلوك المثالي ونكران الذات، حيث يشهد لهم أنهم كانوا وفي كل المنعطفات وفي مختلف المراحل حاضرين دائماً وفي مقدمة الصفوف عندما كان الموقف يتطلب العطاء والتضحية، والعكس تماماً من هذه الحالة، إذ عادةَ ما كانوا يَغيبون أو يُغيّبون عند توزيع المناصب والاستحقاقات، وبالذات في الظروف والمراحل التي اختلطت فيها الألوان وزالت الفوارق بين الأحجام والأوزان، وحين غابت المعايير الوطنية والمهنية والأخلاقية التي أخلت مكانها لنقيضها. ومع التسليم والقناعة الراسخة بأن الموت حق، وبقوله تعالى: "أن كل نفسٌ ذائقة الموت"، فذلك لا يعني أن لا نقدر فداحة الخسارة والفراق الذي خلفه هذا الرحيل وعلى أكثر من مستوى، والذي كان قد سبقه رحيل كوكبه من المناضلين والقادة والثوار والنشطاء والشخصيات الاجتماعية، أما بسبب المرض أو بفعل الأعمال الإرهابية أو سقطوا شهداء في مسيرة الثورة الجنوبية، ومعارك الدفاع عن الجنوب وتحرير أرضه، وقد بدأ ذلك الرحيل أشبه بالنزيف المتواصل للعقول والمرجعيات وأصحاب الخبرة والقدرة، وفي ظروف لا يزال الوطن في أمس الحاجة إليهم. بوفاة المغفور له الفقيد أبو مصطفى فقدتُ شخصياً أخاً وفياً ورفيقاً صادقاً مخلصاً ومرجعاً يعتد بحكمته وخبرته ورجاحة واعتدال رأيه، وإنسان قل ما تجود الحياة بأمثاله. هكذا عرفت الفقيد على مدار السنوات التي جمعتني به، والظروف والمحطات التي مررنا بها وواجهناها. تعود المرة الأولى التي عرفت فيها الفقيد وعن قرب إلى عام 1972م، وكانت المناسبة التحاقنا ضمن بعثة مكونة من ثلاثون شخصاً أُقر سفرها إلى موسكو لدراسة العلوم السياسية ولمدة عامين 1972-1974، وكان الفقيد مرشحاً عن منظمة التنظيم في عدن، وفيما رشحت أنا عن منظمة التنظيم في أبين، وفي مرحلة لاحقة جمعتني بالفقيد ولعدة سنوات عضوية قيادة منظمة الاشتراكي في عدن، ثم جمعتنا ظروف حرب 1994م العدوانية على الجنوب وفي عدن أيضاً، تلتها سنوات من النزوح في الخارج، وأخيراً في عدن وطوال السنوات الخمسة عشر الأخيرة وبكل تطوراتها وأحداثها، وبكل الذي أعتمل فيها على أرض الجنوب، ومن بين المحطات التي جمعتني بالفقيد مؤتمر نجاح، المؤتمر الجنوبي الأول في القاهرة، وحوارات عديدة شهدتها عدن للقوى السياسية والثورية الجنوبية بهدف التوافق على رؤية سياسية جامعة وقيادة تشاركية، وهو طموح وتحدي الذي لا يزال ماثلاً ويتوقف عليه مصير المستقبل الجنوب وآمال وتطلعات شعبه. وطوال هذه المراحل بحلوها ومرها وهذا المخاض وهذه المسيرة فقد شكل الثنائي المكون من كل من: الفقيد حسين عوض عبد القوي اليزيدي، وعبدا لرب علي محمد (مصطفى)، سواءً بالنسبة لي شخصياً أو لآخرين من الأخوة والزملاء، شكلا القدوة والمرجعية التي أعتمد عليها، والمستمدة من المكانة والسمعة التي حُظي بها الفقيدان، بقدرتهما على الإقناع والتأثير والتحشيد مدعومة بالخبرة، واحترام وثقة الآخرين بهما والاعتزاز بالنفس، والوضوح في القناعات والمواقف. رحم الله شهداء وفقداء الجنوب واسكنهم فسيح جناته، ونصر شعبه، إنا لله وإنا إليه راجعون.