آخر تحديث :السبت - 20 أبريل 2024 - 04:36 م

كتابات واقلام


«موزاييك» الثقافة والانتماء في اليمن

الثلاثاء - 05 يوليه 2016 - الساعة 06:11 ص

د. حسن قايد الصبيحي
بقلم: د. حسن قايد الصبيحي - ارشيف الكاتب


أتذكّر ذلك اليوم من أيام عدن الستينات حين تمت دعوة فريق كرة القدم العراقي للعب ضد فريق الجنوب العربي، وكان «استاد الحبيشي» مَسرحاً للمواجهة بين الفريقين، وبدا لي وأنا لم أشهد من قبل مباراة في حياتي، أن شيئاً غير طبيعي يحدث بين الجمهور، وفطنت بعد قليل إلى حقيقة الأمر، واستنكرته على صغر سني، حين وجدت أن المشجعين وهم بالكامل من أبناء عدن، ومن بعض سلطنات الجنوب آنذاك، يهتفون لمصلحة الفريق العراقي دون فريقهم الوطني. وظل هذا التحيز ضد الفريق الوطني طوال المباراة من دون توقف حتى نهايتها، ولاحظت مدى السعادة التي علت وجوه الناس، ومدى الفرحة الواضحة، بعد أن كسب الفريق العراقي ٢- ١ وسط ذهول أقلية من الجمهور الذي ساءته هزيمة الفريق المحلي، وأنا أحدهم. وبدا المشهد يفصح عن أغلبية كبيرة مسرورة بالهزيمة وأقلية صغيرة حزينة على فريقها، وغير مصدقة ما ترى من غياب الشعور الوطني بين المواطنين. طبعاً هناك أسباب كثيرة تجعلنا نفهم هذا الموقف الآن، مثل أن بريطانيا كانت تمنع منح تأشيرات لدخول عدن لكل الدول العربية، فينشأ ذلك الشوق بين الناس لرؤية إخوتهم في العروبة من شمال الوطن العربي، وهو شعور مشترك لدى شعوب منطقة الخليج . إلا أن السبب الحقيقي يرجع إلى أن الجنوبيين، وجانباً من الشمال الواعي، تطغى على أبنائه مشاعر الانتماء للعروبة بأقوى من شعور الانتماء لليمن. بمعنى أن الهوية القومية كانت تأتي في المرتبة الأولى سابقة للهوية الوطنية، وهي حقيقة تفصح عن نفسها في الكثير من المناسبات التي تحدث أثناء بعض الحروب، مثل حرب عام 1973، فتجد اليمنيين يتفاعلون بشكل هستيري. وكان السؤال الذي طرحه صديق دبلوماسي عربي يدور حول التركيبة الاجتماعية والجيوسياسية لليمن، والمواقف والولاءات، وعما إذا كان هناك تناغم بين أهل اليمن في رؤية المستقبل وكيفية، انتشال اليمن من دائرة التخلف والفقر. ومع يقيني أن هذا السؤال يحتاج إلى فريق من المتخصصين في فروع علم الاجتماع، وعلم النفس، والأنثروبولوجيا، والتاريخ وغيرها، إلا أنه وبقليل من المتابعة والاقتراب من واقع اليمن، تجدنا نواجه بموزاييك اجتماعي وثقافي ونفسي ليس له مثيل في البيئات العربية الأخرى، ويمكن أن يلاحظ هذا الموزاييك المثبط للهمم في بيئات مهاجر اليمنيين، حيث تكثر الجاليات وتتضح سلوكات أفرادها، بصرف النظر عن حجمها، فنلاحظ أن بعضها يحرص على توثيق الصلة بين أفرادها، وتأسيس قيم التعاون والرعاية الاجتماعية، وبعضها لديها مقار تحرص على وضع نشاط ثقافي للجالية ولكل من له اهتمام بشؤونها، وهناك من يكتفي بالسلام والحديث المرسل عن أمجاد بلقيس وسيف بن ذي يزن. وحتى الاندماج في مجتمعات المهاجر والتفاعل مع شؤون بلد المهجر تكاد تكون معدومة بين اليمنيين. فنجد على سبيل المثال بعض الجاليات تحرص على المشاركة في الاحتفالات الوطنية، كلمحة وفاء ومشاركة في أفراح البلد المضيف، إلا الجاليات اليمنية التي تكتفي بالمشاهدة من بعيد. اليمن الإقليم من الوجهة الاجتماعية أرخبيل واسع من الجزر تفوق جزر اليابان وإندونيسيا مجتمعة، وربما يكون تنوع اللهجات خير دليل على ذلك. فالوطن العربي بواقعه الحالي ينقسم إلى عدد كبير من الأقاليم. لدينا المغرب العربي، ووادي النيل، والشام، والخليج العربي، ثم اليمن. وبمراجعة تنوع اللهجات نجد أن تماثلاً كبيراً يصل إلى حد التطابق بين أكثر من دولة في إطار الإقليم، في حين أن اللهجات اليمنية لا تدع مجالاً للحصر، ذلك أن اللهجات في عموم اليمن قد تختلف بين قريتين متجاورتين لا تفصل بينهما سوى كيلومترات عدة. ولم يقتصر التنوع في اللهجات على مستوى التجمعات السكانية الكبرى، مثل عدن وحضرموت في الجنوب، وصنعاء وتعز والحديدة وأب في الشمال، ولكنها تتعدى داخل هذه الحواضر والتجمعات الريفية المحيطة بها. فماذا عن بعض المظاهر الثقافية كالفنون والآداب؟ إنها بدورها تتنوع بتنوع اللهجات والمناطق الجغرافية، فعلى سبيل المثال العرب الذين لا يخفون إعجابهم بالفن اليمني يعرفون الفن العدني واللحجي واليافعي والحضرمي، وهي فنون الجنوب، ويعرفون الفن الصنعاني والتعزي في الشمال، ولكن توجد أيضاً فنون متنوعة تلازم الفنون الأخرى، كالرقصات الشعبية وأغاني الأفراح والاحتفالات الدينية التي تتخذ مسارات فولكلورية تتنوع بتنوع الأرياف المتعددة في اليمن. لكن ما هي القضايا التي يجمع عليها اليمنيون، وتحظى باهتمام كبير بين سكان الجنوب والشمال؟ إنه وبصدق الإجماع على كراهية علي عبدالله صالح، ونظامه الفاسد، وكراهية الحوثيين الذين يعملون على إعادة اليمن إلى عصور الظلام. فقد تشكل رأي عام ضاغط لإنهاء مظالم امتدت ثلاثين عاماً مع صالح، ولم يعد بمقدور أي يمني العودة إلى عصره، كما لم يعد بمقدور اليمنيين تحمل نظام حوثي قد تتاح له الفرصة لإقامة نظام ملالي. drsubaihi@gmail.com الخليج