آخر تحديث :السبت - 27 أبريل 2024 - 03:59 م

كتابات واقلام


الهوية الوطنية ضحية "الأمر الواقع"

السبت - 06 مايو 2023 - الساعة 11:56 ص

كرم أمان
بقلم: كرم أمان - ارشيف الكاتب


ما زالت الهوية الوطنية في اليمن تحتكم لسياسة "الأمر الواقع" على مر الأزمان، منذ زمن الدويلات القديمة التي حكمت البلد أو أجزاء منه، مرورا بعصور الاحتلالات العسكرية والاستعمارات الخارجية، وأخيرا في التاريخ الحديث والوقت الراهن.

ما دفعني لكتابة هذا الموضوع، هو ذاك المقال الذي قرأته في موقع المركز اليمني للدراسات للكاتبة شيماء عثمان، شدني موضوعها حول الهوية المشتركة، وأجيال بلا هوية وطنية، وددت أن أكتب حول ذلك، ووضع رأيي في هذه القضية المهمة والحساسة.

لقد ظلت الهوية الوطنية رهينة لتلك السياسات التي تفرض أمرا واقعا ومعطيات جديدة على الأرض، لكن وبنفس الوقت تظل هناك قواسم متقاطعة متشبثة بهوية مشتركة وانتماء متداخل، يمكن البناء عليه وتطويعه في توسيع القواعد المتداخلة والقواسم المشتركة، للوصول إلى مجتمع أو مجتمعات سليمة، بعيدة عن نزعات الكراهية والعداوة والبغضاء التي زرعتها سياسات استخدام القوة وفرض أمر واقع والاحتلال.

استيقظ سكان عدن "العامة من الناس" في 30 نوفمبر 1967 على اسم دولة وهوية جديدة فرضت عليهم من قبل السياسيين، ولأول مرة يعرف البسطاء من أهالي عدن حينها أن مدينتهم بين ليلة وضحاها أصبحت بدءا من ذلك اليوم، عاصمة لدولة وليدة وهوية جديدة اسمها "جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية" يديرها من قدموا إليها من بعض القرى والمدن المجاورة والبعيدة.

أضحت الهوية العدنية التي كانت قائمة قبل 1967م في عدن، مصدر كره وعداوة منذ ذلك الحين، ولا نبالغ إن قلنا إنها كانت أيضا سببا في استخدام سياسة التصفية والتطفيش والانتقام لكل من يحمل أو يجاهر بتلك الهوية.

ظلت الهوية العدنية تتلاشى شيئا فشيئا من وقتذاك، مع بروز هوية جديدة "اليمن الجنوبي" أو "اليمن الديمقراطي" أسوة بالدولة السبتمبرية الجديدة في الشمال "اليمن الشمالي" أو "الجمهورية العربية اليمنية" وتحت تأثير القومية العربية التي مهدت الطريق بالمسميات للبناء عليها وصولا إلى توحد الدولتين اليمنيتين كضرورة حتمية للوصول إلى الوحدة العربية.



عشرون عاما ونيف، عاشت فيها اليمن الجنوبي تمجد الوحدة والهوية المشتركة لليمن، فلم يترك ساسة الجنوب عملا أو ورقة رسمية أو طابعا بريديا أو طابورا مدرسيا أو أغاني ثورية أو برامج تلفزيونية، إلا وطبعوا فيها شعار الوحدة وهوية اليمن المشتركة بين الدولتين، مع تواصل اللقاءات والاجتماعات المشتركة الممهدة للوحدة بين قادة الدولتين في الداخل والخارج، حتى بات الجميع يؤمن بواحدية الشعب ولم يتبق إلا ضرورة توحيد أراضي الدولتين، على الرغم من الاختلافات والفروقات الكبيرة جدا بين المجتمعين وثقافة الشعبين.



وكالعادة، استيقظ اليمنيون الجنوبيون في 22 مايو 1990 على وقع إعلان مفاجئ لوحدة اندماجية بين الدولتين تم التوقيع عليها داخل نفق القلوعة، وصوت المذيع يتحدث بحرارة عن الجمهورية اليمنية، كهوية جديدة لدولة واحدة وسط فرحة عارمة عمت الشارعين الجنوبي والشمالي، والكل مترقب ومتلهف لرؤية ولمس ذلك الجنين الوليد الذي لم يعش طويلا، فما هي إلا بضع سنوات حتى ذبحت الهوية المشتركة بسكاكين ورصاصات الساسة البلداء شمالا والغدر الذي كان يسكن نواياهم المبيتة وأحقادهم الدفينة.



تحول حب معظم الناس في الجنوب، للوحدة والهوية المشتركة، إلى كره وبغضاء وعداوة بل وحقد واسع ويتوسع كل يوم، وهم يرون بلدهم يمزق، مدنهم وقراهم تدمر، ممتلكاتهم العامة والخاصة تسلب وتنهب وتختلس وتسرق، كرامتهم تهان، هويتهم تطمس، أحلامهم تدفن، آمالهم تتبدد، آباءهم مسرحين ومرميين في الشوارع، أبناءهم مخفيين، إخوانهم مقتولين، أقربائهم في السجون، كل ذلك وأكثر زاد من لهفة الناس للعودة إلى الدولة والهوية السابقة التي كانوا ينتمون لها ويشعرون بها، كونها حافظت لهم على حقوقهم وكرامتهم وعيشهم وإنسانيتهم.



الهوية أول هي الانتماء لهذا الوطن، فالوطن الذي لا يحفظ للإنسان كرامته وحقوقه ومواطنته وعدالة العيش فيه، يجعل من المستحيل أن يتمسك الإنسان بهوية ذلك الوطن الذي تعمد ساسته بحرمان رعاياه من أبسط حقوق العيش بكرامة والمواطنة المتساوية.



لقد كانت وما زالت "القوة" هي الأسلوب الوحيد لفرض الهوية في هذا البلد، فلم يترك السياسيون والقائمون على دفة البلد مجالا واحدا للناس في الجنوب لحب اليمن وإمكانية الشعور بالانتماء له، فقد أغلقوا كافة النوافذ وأوصدوا كل الأبواب أمام أي بصيص أمل يحاول البعض الوصول إليه عبر إحداث ثغرة بسيطة في ذلك الجدار الفولاذي الصلب الذي لم تعد الأقلام والنقاشات قادرة على ملامسته، كما لم يعد للتنازلات أي إمكانية في اختراقه.



شمالا، لا وجود لأي مقارنة بين ما يحدث في الجنوب منذ 1994م مع ما يحدث في الشمال منذ 2014م، وأعتقد أن من يحاول أن يفتح باب لأي مقارنة من هذا النوع، فهو ليس ملما بشكل كاف عما يدور في اليمن من أزمات وصراعات خاصة بالهوية الوطنية، باختصار، الحوثيون فئة يمنية شمالية "زيدية"، تتصارع مع باقي القوى اليمنية "دينيا" مذهبيا وطائفيا وسياسيا، لها أفكارها ومعتقداتها الدينية التي تعمل على تحقيقها من خلال الواقع السياسي والعسكري بإيعاز من إيران، وهذا يدحض كليا أي وجه للمقارنة مع الجنوب من صراع قائم على الهوية الوطنية.

ما مورس في الجنوب من فظائع وجرائم وانتهاكات ضد الجنوبيين منذ ما بعد العام 1994م أوصلهم إلى مرحلة من الصعب تداركها حاليا ببعض الوعود، بالمقابل ما يمارسه بعض الجنوبيين اليوم على الجنوبيين، أخشى أن يصل هو الآخر إلى مرحلة اللاعودة وتضيع معه الهوية التي لطالما كانت مثالا لدولة النظام والقانون.

اجتماعيا، لا شك أن لذلك التشتت للطفل اليمني حول هويته، آثرا على نفسيته وعقليته التي تتشكل في الصغر، لكن آثر ذلك لن يكون أكبر من آثاره السلبية على العقلية الذهنية للطفل الذي يرى ما يقرأه ويتعلمه في كتب المدرسة في مواد الوطنية والتاريخ منافي تماما لما يعيشه حاليا مع أسرته من أوضاع منهارة، ليس أكبر من سؤال بريئ ينطلق من طفل يافع لوالده "كيف مات أخي الأكبر؟" أو "لماذا أنت بلا عمل يا أبي؟ " أو "لماذا يا والدي تعمل سواق باص بينما شهادتك مهندس طيران؟"، أو "لماذا تريدني أن أدرس بينما كل أولاد الحافة ورجالهم بلا عمل حتى الان؟"...... وغيرها.

سيكون وقع رد الأب على استفسارات ولده أشد إيلاما إذا قال له أن سبب كل هذا جاء بعد الوحدة والهوية اليمنية الواحدة التي حولوها الساسة من حلم جميل عشنا سنوات على أمل تحقيقه ، إلى كابوس فظيع مؤلم مازلنا نتجرع مراراته ومآسيه حتى اليوم.

دعوا الشعب يختار هويته التي يراها بمحض إرادته، دون إكراه أو تدخل أو بمقابل مادي، اتركوا الشعب يختر طريق السلام الذي يتطلع له، فلم تجلب القوة سوى مزيد من التشرذم والتمزق وتوسيع دائرة الكره والبغضاء والعداوة حتى وصلت مداها، فما كان ممكنا لاستيعابه واختراقه منذ ما بعد 1994م وحتى 2014، أضحى اليوم من الصعب احتواؤه بالصالات المغلقة والتنازلات الضيقة، خاصة مع استمرار سياسات العقاب الجماعي، وتدوير ذات العقليات التي كانت جزءا أصيلا من نكبة اليمن وهويته.

وما يتبقى من شعيرات وخيوط مشتركة للهوية يمكن المحافظة عليها حاليا ليتم البناء عليها في وقت لاحق، بعد التفرغ من حلحلة ولو جزء بسيط من أزمة الثقة التي أحاطوها بسياج منيع من عقليات عليلة وأوهام سقيمة وأدمغة مريضة، خربت كل شيئ وبددت كل أمل.