آخر تحديث :السبت - 27 أبريل 2024 - 03:46 ص

من تاريخ عدن


علي ناصر محمد يكتب عن وزارة الحكم المحلي وشهادة احمد علي مسعد*

الأربعاء - 04 نوفمبر 2020 - 06:51 م بتوقيت عدن

علي ناصر محمد يكتب عن وزارة الحكم المحلي وشهادة احمد علي مسعد*

علي ناصر محمد

كانت أمامي قضايا وأهداف كنتُ أسعى إلى تحقيقها، وكان الهدف الأكبر يتمثل بإرساء نظام حكم محلي في المحافظات، في بلد ظلّ مجزّأً لعقود طويلة إلى كيانات وسلطنات ومشيخات وإمارات صغيرة ليس فيها جهاز إدارة محلية. كان عليّ القيام بالكثير (مثل تعيين مأمورين ومساعدين لهم في المحافظات والمديريات، وهو ما كان من صلاحياتي وزيراً للإدارة المحلية)، ومباشرتهم لعملهم على الفور، خاصة في محافظة حضرموت تحديداً، حيث كانت الأوضاع تستدعي سرعة التغيير العاجل لقطع الطريق على بوادر القلاقل التي بدأت هناك.

وعمل معي في الوزارة خلال هذه الفترة عدد من الإداريين المجرّبين الذين كانوا يعملون ضباطاً إداريين في محميّات عدن الشرقية والغربية، هم: محمد علي، هيثم محمد قاسم، فاروق بن شملان، محمد سيف ثابت، علي ناجي الأزرقي والأستاذ الكفء أحمد علي مسعد.


كتب الأستاذ أحمد علي مسعد عن تجربة عمله معي في وزارة الإدارة المحلية في كتابه "شهادتي للتاريخ" الصادر في عدن تشرين الثاني/ نوفمبر 1999م، ولأهمية ذكرياته وشهادته على تلك الأيام الأولى الصعبة، أستشهد بما كتبه في ذلك:

"… وفي خضمّ هذا الجوّ المشحون بشتّى الاحتمالات، وذات صباح وبينما كنت أراجع بعض الأوراق في مكتبي في إدارة البريد في التواهي، تسلّمت رسالة موقعة من قبل محمد علي هيثم رئيس الوزراء حينها. وكان مجلس الوزراء بجانب إدارة البريد العامة، لا يفصلهما عن بعض سوى الشارع المؤدي إلى مجلس الرئاسة. 


حمل الرسالة أحد السعاة، وكان مضمونها تكليفي من مجلس الوزراء ضرورة تحمّلي مسؤولية وكيل وزارة الإدارة المحلية، وكان مجلس الوزراء قد عيّن الأخ المناضل علي ناصر محمد وزيراً لها، في اليوم ذاته الذي تسلّمت فيه الرسالة...

وبينما أنا مستغرق في التفكير بطريقة الاعتذار... لأنني كنت بدأت في تعلم أبجديات العمل في البريد والتليفون، وإذا بالباب يفتح فجأةً ويطلّ الوزير الجديد داخلاً مكتبي، تعلو وجهه ابتسامة تحولت إلى ضحكة مرحة، وعلى حدّ قول أحد كبار الصحفيين العرب في وصفه علي ناصر… وكأن كل براءة الأطفال في عينيه.

أمر تكليف من حكومة الثورة

ويسترسل بحديثه :" لم أُفاجأ للزيارة، فقد سبق له أن جاء إلى مكتبي مرة أو مرتين بعد تركه العمل محافظاً لمحافظة لحج عقب الاستقلال مباشرة، وأٌسندَت إليه بعدها مسؤولية في المقر العام للجبهة القومية، كما كان يطلق عليه آنذاك، وكانت زيارات شخصية، إلّا أن الأمر اختلف هذه المرة...


بعد أن أخذ مقعداً وجلس أمامي كما يفعل كل مرة...

سألني عمّا أفعل، فأخبرته بالحقيقة، وهي أنني أقوم بالردّ على رسالة الأخ رئيس الوزراء، وكان يعلم بها، بل أستطيع القول إنه كان وراء هذه الرسالة وبطلب منه، وكان الأخ شعفل عمر علي، مدير مكتب رئيس الوزراء، هو الذي أخبرني بهذا الأمر...

وكانت علاقتي بعلي ناصر قديمة وحميمة منذ أن كنت أعمل في دثينة في حقل التربية والتعليم في مطلع الخمسينيات.
أعود مرة أخرى إلى الزيارة التي لم تكن مفاجئة، وكان تعقيبه على اعتذاري: أنت كما تلاحظ أنّ محتوى الرسالة هو أمر تكليف من حكومة الثورة، وليس أمامك خيار...

ثم استطرد مازحاً وضحكته المرحة تدوّي في الغرفة إما قبول التكليف وإلّا…! وانطلق يضحك.


وإذا كانت إدارة البريد والهاتف قد سارت على أسس إدارية ثابتة، واكتسبت سمعة دولية عالية بفضل الانضباط الإداري والفني من جميع الأجهزة التي دُرِّبَت فنياً، محلياً ودولياً، ومن عمال مقتدرين عرب وأجانب، وبفضل الثواب والعقاب والعزم والحزم الإداريين اللذين لا هوادة فيهما، لأنّ الأمر يتعلق بثقة الناس خارج عدن وداخلها، ومتعلق أيضاً باقتصاديات الشركات ورجال الأعمال الذين يتعاملون معها من جميع أنحاء العالم، ويجب أن تكون لديهم الثقة المطلقة، وأدنى تباطؤ في إنجاز الخدمة البريدية سيفقدهم المال والثقة التي يتعاملون بها في العالم. لهذا، بقي اسم عدن يتمتع بهذه الصفة على الدوام.


ويضيف مستدركاً بحديثه :" أما الإدارة المحلية التي كُلِّفتُ أن أكون وكيلاً لها، فالأمر فيها مختلف تماماً، بمعنى أنه لم تكن هناك إدارة ولا إداريون ولا مَن يحزنون، وكل ما في الأمر أنّ الأخ سعيد العكبري شكَّل أول إدارة للحكم المحلي، بعد قيام أول حكومة بعد الثورة، وقد جمع الأخ العكبري أعداداً متنافرة ممّن بقوا من موظفي إدارة المندوب السامي، ومن بعض موظفي الإدارات في اتحاد الجنوب العربي من خارج عدن. ولم يلبث الأخ سعيد أن غادر عدن إلى حضرموت، على أثر الخلافات التي كانت تدور في ذلك الوقت، ثم غاب ولم نسمع عنه شيئاً، وكان تعيين الوزير الجديد.


بدأنا العمل وكأننا نبحر في مياه غير مياهنا الإقليمية، إذ أصرّ كل محافظ ومأمور على إدارة (إقطاعيته) كأنه ورثها عن أجداده السابقين، والحق أنه لولا ثقتي بقدرة علي ناصر وشجاعته وإخلاصه وتفانيه في العمل بصبر دؤوب، لما استطاعت هذه الوزارة مواجهة التحديات بحنكة ومهارة، حتى استطاع أن يخضع أولئك الحكام لمركزية الإدارة بصورة صارمة، بعد أن لاحظ أنّ هناك الكثير من التجاوزات التي لا يسمح عرف ولا قانون بها، وبدأ المواطنون من كل حدب وصوب يتقاطرون على الوزارة بنحو لا يمكن تصوره في ذلك الحين، شاكين من كل شيء، بل هاربين بجلودهم إلى الوزارة، فيعود البعض منهم برسائل إلى المسؤولين في المحافظات تهدئ من قلقهم وخوفهم لبعض الوقت.


وكانت تلك الرسائل تأتي بردود أفعال عكسية من المحافظات، الأمر الذي كان يثير غضب الأخ الوزير، ما يضطره أحياناً كثيرة إلى استدعاء الكثير منهم إلى عدن للمساءلة من قبله في بعض الأمور، ومن قبل الأخ رئيس الوزراء، وذلك بحسب نوع المشكلة وأهميتها، ويترتب عن ذلك إما تحويل المسؤول إلى منطقة أخرى، أو إعفاؤه كلياً.


وقد خفف هذا الإجراء من التعنت وعدم الشعور بالمسؤولية، ومن حدة قلق المواطنين. كما أن ذلك ساهم ببلورة روح التفاهم والوفاق بين رئيس الوزراء ووزير الإدارة المحلية، وفي ذلك الوقت المبكر من قيام حكومة الثورة...


وما أبعد الليلة عن البارحة! فلقد كانت علاقة زملاء الدراسة وزملاء السلاح وصداقة العمر في غاية الود والتقدير والاحترام المتبادل، أقول هذا وأنا أثق بما أقول، والشاهد على ذلك أنني عرفتهما معاً في مطلع الصِّبا، وظلت علاقتي بكليهما طوال تلك الفترة الطويلة علاقة الأستاذ بطلابه، طوال فترة الدراسة ومرحلة الكفاح المسلح، وبعد سنوات الثورة.

وكما ذكرت خلال تسجيلي لهذه الذكريات، فقد عملت مع الرئيس علي ناصر محمد أطال الله في عمره عندما عُيِّن وزيراً للإدارة المحلية، ولكن تلك العلاقة الحميمة التي صمدت طوال سنوات الكفاح المسلح والكفاح في سبيل البقاء والتحصيل العلمي، لم تلبث أن تصدعت في بادئ الأمر وصارت أشلاءً بعد ذلك.

ويتابع حديثه :" أعود مرة أخرى إلى وزارة الإدارة المحلية، ولا بأس من أن أورد هنا كيف يبدأ عملنا اليومي بشكل مختصر.

كنا كغيرنا نصل في السابعة أو نحو ذلك، وفي بعض الأحيان نجد سيارة الوزير قد سبقتنا في الوصول، وأجد فوق مكتبي حزمة من الأوراق تحتوي على توجيهات من مختلف الأشكال والأنماط، وهكذا نقضي ساعات الدوام إما في اجتماعات أو مقابلات وتنفيذ "روشتات" الوزير، كما أطلقتُ عليها في تلك الأيام.


وهكذا ينتهي الإخوة الموظفون من عملهم في نهاية الدوام، ويبقى الوزير ومسؤول الأرشيف وأنا في الوزارة نتناول طعام الغداء بشكل سندويتش وفنجان شاي، لكل منا، وكان من عادة الأخ علي ناصر أن يغفو لمدة نصف ساعة ويطلب منا إيقاظه في الوقت المطلوب، وكان من عادته أن ينام ما إن يضع رأسه على المخدة، وكنت أندهش من هذه القدرة الخارقة على التحكم بأعصابه، وأعتقد الآن بعد مرور أكثر من عشرين عاماً وأكثر من ذلك من الأزمان، أنه ليس في استطاعته الخلود إلى النوم بمثل تلك البساطة والسهولة، كان الله في عونه.

وكان دوامنا الرسمي، أنا ومسؤول الأرشيف، ينتهي في الخامسة أو أكثر قليلاً نغادر بعدها الوزارة إلى منازلنا، ويبقى هو أيضاً هناك حتى التاسعة، وكنت ألاحظ أن بعض قيادات الحزب والدولة يأتون لزيارته، وقلما كنت أسأله في هذا الأمر".



ويردف بالقول :" انتهت شهادة الأستاذ أحمد مسعد التي أعتزّ بها وكان من بين الذين عملوا معي في تلك الفترة أيضاً، محمد سيف ثابت، الذي أصبح فيما بعد موظفاً لدى الأمم المتحدة، وفاروق بن شملان، ومحمد قاسم، كما أشرت آنفاً، وغيرهم من الذين يمتلكون خبرات جيدة في مجال الإدارة، وكانوا خير عون لي في مهمتي في الإدارة المحلية، وقد ساعدوني مع عدد من المستشارين في إعداد قانون الأعراف .

في بعض محافظات الجمهورية التي كانت تفتقر إلى قوانين مدنية مختصة، وتعتمد في حلّ المشكلات على الأعراف والتقاليد الشعبية السائدة والمتوارثة، وخاصة محافظات لحج وأبين وشبوة والمهرة، وجدتُ أن من المناسب قوننة هذه الأعراف وتنظيمها في مواد وبنود بهدف سدّ الفراغ القانوني والتشريعي المترتب عن غياب القانون المدني الحديث، واعتماد رؤساء العشائر والقضاة الشعبيين على الذاكرة في أحكامهم والاجتهاد أحياناً، وكانت هذه الخطوة تستلزم جمع كمية كبيرة من المعلومات عن هذه الأحكام العرفية، وأساليب التقاضي فيها وأحكام القضاء في الأعراف الشعبية، ثم غربلتها وصوغها بطريقة منظمة، وذلك بالاستعانة بقانونيين متخصصين من وزارة العدل والأوقاف، ثم إصدارها في صيغة قانون يُعمَّم ويُطبَّق في مختلف المحافظات.
كان القضاء، باستثاء محافظتي عدن وحضرموت، يوكَل إلى رؤساء العشائر أو قضاة شعبيين يكون لهم الفصل في المنازعات بين الناس، قبل تشكيل ما كان يُسمى "المحاكم العرفية" في المحميات التي تختار حكامَها السلطات المحلية والضابط البريطاني. أما في محافظتي عدن وحضرموت، فكانت المحاكم تستند في أحكامها إلى خليط من القوانين القضائية البريطانية والهندية والسودانية، وغيرها من القوانين التي سُنَّت في مستعمرات التاج البريطاني، وما توارثته هذه المحاكم من أعراف قضائية شعبية فيهما.


وكان هذا يمثّل حالة أفضل من وضع المحافظات الأربع التي لم تحتكم إلى القانون على مدى 129 عاماً من حكم الاحتلال.


ولتحقيق هذا المسعى، أجريتُ سلسلة من اللقاءات والمقابلات مع عدد من الوجهاء وكبار الشخصيات الاجتماعية في الجمهورية من مختلف المحافظات، وحاورتهم في السبل المناسبة لوضع آلية قانونية حديثة وموحدة للأحكام القضائية، فجُمعَت كمية كبيرة من هذه الأعراف ودُوِّنَت، وقد صدرت تحت عنوان قانون العرف أو قانون العرف المحلي، كما عُرِّف في المادة الأُولى منه، لعام 1969، وحوى 13 باباً و117 مادة، وسرى العمل به في المحافظات قبل صدور قانون العقوبات والقانون المدني في منتصف السبعينيات.( للحديث بيقة ) ..
* المحرر : أحمد علي مسعد رحمه الله كان سكرتير وفد الجبهة القومية في مفاوضات استقلال الجنوب 1967 في جنيف.