آخر تحديث :السبت - 20 أبريل 2024 - 01:32 ص

كتابات واقلام


مع المناضل صالح فاضل الصلاحي.. يوميات عدنية (2)

السبت - 09 أكتوبر 2021 - الساعة 03:48 م

د. عيدروس نصر ناصر
بقلم: د. عيدروس نصر ناصر - ارشيف الكاتب


سنوات وأنا أنتظر هذه اللحظة بشغف ورغبة، فالرجل الذي سأقابله ليس مجرد إنسان، بل إنه كتلة من المواقف والمعلومات والحقائق أو لنقل موسوعة تاريخية تختزن مراحل من التجارب الشخصية والقصص العائلية والمعاشرات الاجتماعية والنضالات الوطنية تمتد أكثر من سبعة عقود هي عمر الحركة الوطنية الجنوبية منذ مراحلها الجنينية وأحداثها العشوائية والمواجهات المباشرة المتقطعة مع المحتل البريطاني حتى مرحلة النضالات والحركة الإضرابية النقابية فالعمل الثوري المنظم والثورة المسلحة ضد المستعمر البريطاني وأعوانه، ثم مراحل بناء النظام الوطني الوليد في جمهورية اليمن الديمقراطية والدفاع عنه وبناء وصيانة مصالح الطبقات الاجتماعية الوطنية صاحبة المصلحة الأولى في الثورة الأكتوبرية والاستقلال الوطني ومنجزاتهما.
إنه المناضل صالح فاضل الصلاحي (عمران) والذي كنت قد توقفت منذ نحو ثلاث سنوات عند كتابه "ذكريات "عمران" . . الفدائي والإنسان" وهو الكتاب الذي أهداني إياه زميلي وصديقي الدكتور محمد صالح فاضل الصلاحي (نجل المناضل موضوع حديثنا) والذي دون فيه المناضل الصلاحي بعضاً من تجاربه ومغامراته الشخصية ثم - وهذا هو الأهم - مساهماته في ثورة 14 أوكتوبر وتعقيدات ومراحل الثورة والدولة في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
تصادفت زيارتي له ومعي الدكتور عبد الخالق صلاح عبد القوي و(حماي) الشخصية الاجتماعية العم محمد علي حسن القطوي، تصادفت مع وفاة العم صالح أحمد الصلاحي ابن عم المناضل (عمران) وكان من اللازم تقديم واجب العزاء من ناحية والاطمئنان على صحة المناضل صالح فاضل الصلاحي من ناحية أخرى.
قبل الولوج في أي حديث كان الاطمئنان على صحته وأخباره بينما قدم لنا حفيداه سالمين وفتاح ما نشربه في مناسبات كهذه، ولم يدعنا نتعمق في حديث التحيات والمجاملات بل أسرع بنفسه في الحديث عن اللحظة الراهنة وتحدياتها
حديث الثوار
لقد حرصت مع زميليَّ على أن نترك الحديث للعم صالح فاضل حتى لا نضيِّقَ عليه إطار الحديث أو نفرض عليه ما قد لا يكون له به طاقة من التفكير والحديث، وتوقعنا أنه سيسلم علينا ويتركنا ننصرف، بيد إننا قد استمعنا منه إلى قائد سياسي مخضرم يتمتع بكامل القوى الذهنية والجسدية ولديه كل الفهم والإدراك والاستيعاب لكل تعقيدات المرحلة، وحينما كان يتحدث إلينا كنا نشعر بأننا أمام بروفيسور في العلوم السياسية وعلوم التاريخ والأنثروبولوجيا، وأهم ما لاحظناه زميلاي وأنا هو قدرة الرجل على استيعاب المعطيات وسبر أغوارها بمهارة، فبرغم تقدمه بالعمر وابتعاده عن الوطن لسنوات، ونشوء معطيات وتعقيدات جديدة بالنسبة له ولجيله وهي تلك التي تأخر في استيعابها أناس من جيلنا والجيل الذي بعدنا، برغم كل ذلك بدا الرجل يتمتع بقدرة ممتازة على تناول الملفات التي تشغل ذهن أي سياسي ماهر من مواليد السبعينات والثمانينات.
أخذ حديث المناضل الصلاحي اربع قضايا قبل أن يختتم حديثه بالقول: لست أدري عماذا أتحدث معكم فالقضايا كثيرة وتشعباتها متعددة، لكنني قاطعته بالقول "لقد أجملت كل القضايا ولم تدع شيئا لم تتناوله".
وقد تركز حديث المناضل أبا محمد حول أربع قضايا رئيسية هي:
1. الوضع السياسي الراهن ومصاعبه وخلفيات القضية الجنوبية وتعقيداتها: وفيها تناول المناضل الصلاحي قضية حق الجنوبيين في تقرير مصيرهم واستعادة دولتهم، وقال لقد تورطنا مع أشقائنا في الشمال في وحدة فاشلة، فلا المواطنين الشماليين استفادوا منها ولا المواطنين الجنوبيين نجوا من نيرانها المحرقة، والمستفيد الوحيد من هذه الوحدة هم اللصوص والمغتصبون والقادة الفاسدون، ونوه إلى إنه من العيب أن نتهم أحد بأنه من أوقعنا في هذه الورطة فقد كانت نتيجة مؤامرة كبيرة، حسب رأيه، كان الهدف منها القضاء على التجربة الجنوبية من خلال أحد شعاراتها وهو "شعار الوحدة اليمنية".
ومما قاله على إن الوضع المعيشي والاجتماعي والسياسي المعقد والمتدهور اليوم في الجنوب ليس سوى ثمرة من ثمرات كارثة عام 1990، وما تلاها من حرب الغزو والعدوان في العام 1994م.
2. وحدة الصف الجنوبي والالتفاف حول شعار "استعادة الدولة الجنوبية" وتجسيد مبدأ "التصالح والتسامح" الحقيقيين: وهنا توقف المناضل عمران (وهذا كان اسمه التنظيمي إبان فترة الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني) عند سبل النضال من أجل تحقيق الحل العادل للقضية الجنوبية، وقال: إن الخلاص مما نحن فيه من تفكك وتدهور ودمار وخراب ومجاعة وفقر واضطراب وشتات، لن يتم إلا بوحدة الجنوبيين على أساس حقهم المشروع في تحرير أرضهم واستعادة دولتهم وبناء الجنوب الجديد، وقال إن هذا لن يتأتى إلا من خلال تحويل مبدأ التصالح التسامح إلى حقيقة ملموسة، وذلك بالتنازل عن قضايا الماضي ونتائج صراعاته والقبول ببعضنا البعض في ضوء تجربة الصراعات الماضية التي لم تنتج لنا سوى التفكك والبغضاء والوقوع في مصيدة الأعداء، وشدد على طي كل صفحات الماضي المؤلم بما فيها ذلك الماضي القريب الذي زادنا ضعفا وزاد عدونا قوةً.
3. التمييز بين (النضال والهبش) حسب تعبيره الحرفي: وفي هذه القضية دعا المناضل أبو محمد إلى الوقوف بجدية أما ظاهرة السطو والبسط والاستحواذ على أملاك الغير من قبل البعض ممن يدعون أنهم مناضلون، وقال إنه لا يمكن للمناضل إلا أن يكون مناضلاً فقط ولا يمكن للمناضل أن يكون في نفس الوقت لصا أو بطاشا أو ناهبا لآملاك الغير، . . . مفردة "النضال" مفردة سامية وطاهرة المعنى لكن عندما يقوم من يدعي أنه مناضلٌ بالسطو و"الهبش" والاستحواذ على حقوق الغير بالباطل، فإن ربط هذا السلوك القميء بمفردة النضال يشوه قيمة النضال ويزعزع ثفة المواطنين الشرفاء بمعانيه ويبعدهم عن التفكير بأخذ القدوة من أمثال هؤلاءِ "المناضلين"، لأن اللص لا يقتدي به إلآ اللصوص أو من في نفوسهم استعداد للصوصية.
وقال المناضل الصلاحي إنه وفي أيام الكفاح المسلح كان يُحْكَم بالإعدام على من يسرق طلقة رصاص أو رطل دقيق من مخصصات الثوار، ولم يكن الثوار يسرقون، لكن ذلك ليس خوفا من الإعدام بل حرصا على طهارة مفردة "النضال" ومعانيها السامية.
4.التمييز بين الأولويات وإدراك ما هو عاجل وما هو آجل: وفي استعراضه لهذه القضية ركز المناضل الصلاحي على أهمية فرز الأولويات الجنوبية اليوم، وفي هذا السياق شدد على إن ليس كل أهداف الثورة يمكن أن تحقق في وقتٍ واحد، فهناك أهداف عاجلة تهيأت لها ظروف وشروط تحقيقها ، وهو ما يجعل النضال من أجل حلها عاجلاً لا يقبل التأجيل، وهناك أهداف أخرى مهمة واستراتيجية لكن ظروف الوصول إليها لم تتوفر بعد ولذلك فإننا لا يمكن أن نضعها على رأس جدول اليوم أو حتى الغد القريب، ومع ذلك يجب النضال من أجل توفير شروط تحقيق تلك الأهداف.
لم يتحدث المناضل عمران عن الكثير من التفاصيل في هذه القضية، فقد حرصنا على عدم إرهاقه وتحميله ما نعتقد أنه قد لا يتحمله من أعباء، لكنه ظل طوال الحديث يحث الجميع على أهمية توحيد الصف الجنوبي وتحقيق مبدأ التصالح والتسامح لتعزيز وحدة النضال الجنوبي من أجل تحقيق الأهداف اللاحقة، أو كأنه يقول للمستعجلين الذين يطلبون من المجلس الانتقالي الجنوبي الإسراع في إعلان الدولة الجنوبية : تأنوا في مطلبكم هذا ووفروا ظروف الوصول إليه وحينها يمكن التحدث عن إعلان دولة الجنوب واختتم حديثه بالقول: لا يمكن أن تبني دولة بوعي مشوه ومجتمع مفكك ومتنازع مع بعضه البعض.