آخر تحديث :الجمعة - 19 أبريل 2024 - 01:49 م

كتابات واقلام


عقليات مريضة ومعقدة

الثلاثاء - 10 مارس 2020 - الساعة 01:08 ص

د. سمير شميري
بقلم: د. سمير شميري - ارشيف الكاتب


هل يمكن لعقليات مثقوبة ومحشوة بالوهم أن تنير عتمة الظلام ؟ هل يمكن لشخصيات مريضة ومعقدة أن تغرس بذرة أمل في النفوس ؟ هل تستطيع الشخصيات المريضة الغارقة في الضباب و الشك والمصابة بتمزقات روحية أن تعالج علل الفكر والواقع بحفنة هواجس وأفكار متخشبة ؟!
فمعاناة و اضطرابات المرضى تختلف عن معاناة و اضطرابات المبدعين ، فالشخصية المبدعة رهيفة وقلقة وحساسة ولبيبة وتلعق أحزانها لوحدها ، وتمر بسلسلة من الأوجاع والآلام والتوتر العقلي النفسي والوجداني ، فتبدع إبداعاً فاخراً يمس شغاف القلوب .

فعالم الاجتماع الفرنسي أوجست كونت (1798- 1857م ) كان يعاني اضطرابات نفسية وروحية وحاول الانتحار ووصل غير مرة إلى حافة الجنون ، وتواكب مع محنته النفسية إنتاج فكري ثاقب أثرى المخزون الثقافي العالمي .
وعلى الغرار ذاته كان المفكر الألماني ماكس فيبر (1864-1920م ) مصاباً بتوعكات عصبية حادة تشله عن الحركة وتعكر صفوة حياته مابين الفينة والأخرى ، وأجبرته حالته النفسية على ترك منصبة الأكاديمي الجامعي ردحاً من الزمن ، وأبدع أعمالاً فكرية شديدة الوهج والجاذبية تصب في مجالات : الضبط الاجتماعي ، الأخلاق والقيم ، والقانون ، والسلطات وأنواعها ، وتنظيم الإدارة .

والفيلسوف شوبنهار (1788-1860م ) كان مصاباً بلوثة العظمة وعقدة الاضطهاد (البارانويا ) والغيرة الحسدية – مثل القاص يوسف إدريس (1927-1991م ) – خلف تراثاً فلسفياً عظيماً وله مساهمات ناصعة لا تخطئها العين .
فمعاناة و اضطرابات المبدعين في شتى حقول الإبداع لصيقة بإبداعاتهم الفكرية والأدبية والفنية والثقافية لأن ( المرض هو السبب الأساسي لكل إندفاعة إبداعية – حسب تعبير الشاعر هيني - وبالإبداع أشفي نفسي من أوجاعي وهمومي) .

أما غير المبدعين والمتوهمين بامتلاك الحقيقة والتفوق المطلق فأنهم يسرفون في استعمال أنانيتهم ويغلقون الأبواب في وجه العقل والتبصر والاستنارة ، فتشوب حياتهم التوهمات والشطحات النرجسية القاتلة ، فالنرجسي ( شخص يفقد القدرة على التعاطف مع الآخرين والإحساس بآلامهم ومشاعرهم ، وهو ذو نمط ثابت يتسم بالتعاظم المبالغ فيه ، والترفع ، والمبالغة في تقدير قيمته أو قيمة ما ينجز ، وهو كثير الانشغال بخيالات النجاح والقوة والألمعية ) " د. عبد الستار إبراهيم " .فالإنسان السوي يجب أن يسير على دعامتين : العقل والوجدان ( كما يقول أفلاطون ) ، وعندما يسرف الإنسان في استخدام أنانيته لإرضاء غروره يتحول إلى مخلوق غريب يقدم على تصرفات مقززة وبغيضة .
فالعقلية المريضة مصابة بلوثة التوهمات الحسية والبصرية والسمعية والذهنية ، تنزع للتغطرس الفكري والمعنوي الأجوف ولوك العبارات الجاهزة .
فالذات المعتلة تعاني إعتلالاً فكرياً ونفسياً ، وتعوزها اللياقة والاحتشام والمهارة الاجتماعية والذكاء العاطفي ، فتسعى للإثارة والمماحكات ، وتعيش حالة هلهلة ، فهي غامضة بهواجسها وشبكة مفاهيمها الضبابية في تفكيرها ، تطلق في السماء الهواء الفاسد المشحون بجراثيم السماجة والتبلد .