آخر تحديث :الأحد - 07 ديسمبر 2025 - 01:31 ص

كتابات واقلام


تحليل منطوق حكم القاضي الانجليزي

الجمعة - 27 يونيو 2025 - الساعة 08:36 م

المحامي جسار فاروق مكاوي
بقلم: المحامي جسار فاروق مكاوي - ارشيف الكاتب


إحدى القضايا المدنية التي دونتها وثائق محاكم "ولاية عدن" في ستينيات القرن الماضي:{مثُل أحد الضباط الإنجليز أمام محكمة القاضي الإنجليزي المستر نايجل الجزئية، بتهمة الاعتداء على مؤذّن أحد المساجد في منطقة المعلا .. وتعود الحادثة إلى الساعة الرابعة والنصف فجراً، حين كان الضابط عائداً إلى شقته في إحدى عمارات المعلا بعد سهرة قضاها في أحد البارات بالتواهي، وقد كان في حالة سكر .. وبينما كان يستعد للنوم، انطلق أذان الفجر من المسجد القريب، مما أثار غضبه، فنزل من شقته وتوجه مباشرة إلى المسجد وكسر الباب، وحاول الإعتداء على المؤذّن بالضرب}.
{تجمع اهالي المنطقة على إثر ذلك، وتمكنوا من الإمساك بالضابط وتسليمه للشرطة، التي قامت بإيداعه السجن وتحرير محضر رسمي بالواقعة. وفي اليوم التالي، عُرض الضابط على المحكمة، حيث أصدر القاضي نايجل حكمه بسجنه لمدة شهرين، وتغريمه مبلغ ألفي جنيه إسترليني، بالإضافة إلى قرار بترحيله من عدن بعد انقضاء مدة السجن} .
{وخلال نطق الحكم، وجه القاضي حديثه إلى الضابط قائلاً: "لقد أصدرت هذا الحكم عليك، لأنك لم تبدِ احتراماً للبلد الذي تخدم فيه، ولم تُراع عادات وتقاليد شعبه ولا شعائره الدينية، وهذا جزاء من يعتدي على معتقدات أهل البلد"} .
بلال غلام حسين
٢٧ يونيو ٢٠٢٥م
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[تحليل منطوق الحكم] :
((لقد أصدرت هذا الحكم عليك، لأنك لم تُبدِ احتراماً للبلد الذي تخدم فيه، ولم تُراعِ عادات وتقاليد شعبه ولا شعائره الدينية، وهذا جزاء من يعتدي على معتقدات أهل البلد)).
[ لنقف على منطوق الحكم و ما أبداه القاضي في حديثه للضابط الانجليزي] :
أولاً/"لقد أصدرت هذا الحكم عليك..."
بداية مباشرة، لا تبريرية، بل حاسمة تؤكد أن الحكم ليس اعتباطياً، بل مبني على مبررات واضحة.
→ صيغة الجزم والمسؤولية القضائية: القاضي يُعلن أنه هو من أصدر الحكم، لا تحت ضغط سياسي أو إداري، بل بقناعة شخصية وقانونية.
"لأنك لم تُبدِ احتراماً للبلد الذي تخدم فيه"
هنا يُحمِّل القاضي الضابط مسؤولية مزدوجة:
1. احترام البلد المضيف: وهو واجب على كل شخص أجنبي في أرض غيره، خصوصًا إن كان في موقع قوة أو تمثيل رسمي (كالجنود والضباط).
2. الخدمة لا تبرر الاستعلاء: فالضابط ليس مجرد زائر، بل يعمل في عدن، أي أنه ملزم أخلاقيًا وقانونيًا باحترام قوانينها وثقافتها.
( رسالة مبكرة لمبدأ السيادة الثقافية للدولة المضيفة، حتى في ظل الاحتلال).
"ولم تُراعِ عادات وتقاليد شعبه"
هذه العبارة ترفع العُرف المجتمعي إلى مرتبة من الاعتبار القانوني.
القاضي لا يحاكم فقط السلوك من حيث الشكل القانوني (الاعتداء)، بل أيضاً من حيث مخالفته للنظام الاجتماعي العام.
(يظهر هنا أن العادات والتقاليد ليست مجرد ممارسات ثقافية، بل تُعد جزءاً من السلم الأهلي يجب احترامه، وخاصة من الأجانب).
( رسالة بأن من يعيش بين الناس عليه أن يفهم ثقافتهم لا أن يفرض ثقافته عليهم) .
"ولا شعائره الدينية" وهنا يدخل القاضي في جوهر الاعتداء على الخصوصية الدينية، وهي من أرفع القيم المحمية في الأنظمة القانونية – حتى في أنظمة الغرب العلمانية.
(الأذان في هذا السياق ليس مجرد صوت، بل شعيرة عقائدية ترتبط بحرية الدين والمعتقد) .
الاعتداء عليه يُعد بمثابة تهجم على الهوية الدينية للجماعة.
{دلالة راقية} : القاضي يعترف بشرعية الشعائر الإسلامية، ويمنحها حماية قانونية رغم كونه قاضيًا أجنبيًا في أرض مستعمَرة.
"وهذا جزاء من يعتدي على معتقدات أهل البلد"
خاتمة الحكم جاءت بمنتهى الحزم:
لا تبرير ولا تساهل. العقوبة جاءت جزاءً عادلاً لا لردع الضابط فقط، بل لحماية المجتمع.
( هنا يُرسى مبدأ: من يعتدي على المعتقدات، يُعاقب، أياً كان مركزه أو جنسيته).
( خلاصة التحليل) :
منطوق القاضي نايجل لا يُعد حكمًا عادياً، بل هو:
1. بيان قضائي أخلاقي يحمي الكرامة الثقافية والدينية لمجتمع عدني مسلم.
2. رسالة سياسية غير مباشرة ضد أي سلوك استعماري متغطرس.
3. سابقة قانونية تُقر بأن الشعائر والعادات المحلية هي من مكونات الأمن المجتمعي، ويجب حمايتها قانونًا.
4. دليل على أن استقلال القضاء وعدالته لا تحكمه الجنسيات، بل الضمائر.
المحامي/جسار فاروق مكاوي .