آخر تحديث :الثلاثاء - 09 ديسمبر 2025 - 04:55 م

كتابات واقلام


لحظة الحقيقة في الجنوب: عندما تعيد الجغرافيا رسم التاريخ

الثلاثاء - 09 ديسمبر 2025 - الساعة 03:36 م

حافظ الشجيفي
بقلم: حافظ الشجيفي - ارشيف الكاتب


لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إننا نقف اليوم أمام مشهد لا يتكرر كثيرًا في حياة الشعوب، مشهد تتداخل فيه عبقرية الجغرافيا مع حتمية التاريخ، لتصنع لحظة فارقة تفصل ما بين زمنين؛ زمن الوصاية وزمن السيادة. فما يجري اليوم في الجنوب، من أقصى المهرة شرقًا إلى باب المندب غربًا، ليس مجرد تظاهرات عابرة أو انفعالات جماهيرية مؤقتة، بل هو استفتاء حيّ مكتوب بأقدام الملايين الذين خرجوا تلبية لنداء المجلس الانتقالي الجنوبي، بعد أن اكتملت دائرة السيطرة على الأرض، وتحررت الهضاب والوديان في حضرموت والمهرة من آخر معاقل القوات اليمنية، لتصبح الأرض الجنوبية – ولأول مرة منذ عقود – خالصة لأهلها، وتصبح الخريطة ناطقة بلسان واحد، هو لسان الدولة الجنوبية القادمة.

إن خروج هذا الطوفان البشري إلى ساحات الاعتصام، في توقيت دقيق وحساس كهذا، يحمل في طياته رسائل تتجاوز حدود الهتاف؛ إذ يمثل إعلان سياسي بامتياز، مفاده أن الواقع العسكري الجديد الذي فرضه الجنوبيون بتحرير كامل ترابهم الوطني، لا بد أن يوازيه واقع سياسي مماثل في الحجم والمقدار. فالجماهير التي زحفت إلى الساحات لم تخرج لتبحث عن تحسين شروط المعيشة، أو للمطالبة بحصة في حكومة، أو لمنصب وزاري هنا أو هناك؛ بل خرجت لأنها أدركت بحسها التاريخي أن لحظة "الدولة" قد حانت، وأن الشرعية الثورية التي يملكها المجلس الانتقالي الجنوبي اليوم قد اكتسبت بعدًا جديدًا حول "شرعية الأرض المحررة بالكامل"، ولم يعد هناك عذر لأي تراجع أو مناورة.
وهنا، لا بد أن نتحدث بصراحة تقتضيها أمانة الكلمة بإن المجلس الانتقالي الجنوبي، وهو يقف اليوم على رأس هذا الهرم الجماهيري، يجد نفسه أمام اختبار التاريخ الأصعب. فالدعوة التي وجهها للجماهير، والتي قوبلت بهذا الهدير الشعبي الجارف، تضع على عاتقه مسؤولية أخلاقية وسياسية لا تحتمل القسمة على اثنين. فهذا الخروج الكبير هو تفويض مطلق لإعلان الاستقلال، وليس تفويضًا للدخول في دهاليز تسويات سياسية عقيمة، أو حلول ترقيعية تعيد إنتاج الأزمات القديمة بوجوه جديدة.
وأي محاولة لاستثمار هذا الزخم الشعبي الهائل كورقة ضغط لتحقيق مكاسب تكتيكية صغيرة، أو مناصب في إطار "الدولة اليمنية"، ستكون بمثابة خطيئة سياسية لا تغتفر، وخذلانًا لإرادة شعب قدم قوافل الشهداء ليرى علمه يرفرف على سواري الأمم المتحدة، لا ليرتفع فوق مبنى وزارة في حكومة محاصصة.

إن المنطق السياسي السليم يقول إن المفاوضات هي انعكاس لموازين القوى على الأرض، وبما أن الأرض جنوبية بالكامل، والقرار جنوبي بالكامل، والإرادة الشعبية جنوبية بالكامل، فلا يجب أن تكون مخرجات أي عملية سياسية أقل من الاستقلال الكامل والناجز.والحديث عن فيدراليات أو أقاليم أو صيغ وحدوية معدلة امر تجاوزه الزمن، وسقطت مشروعيته تحت أقدام المعتصمين في الساحات. ويجب أن يكون الحوار القادم – وفقط القادم – متمحورًا حول نقطة واحدة فقط عن كيفية ترتيب إجراءات فك الارتباط بسلام، وتأسيس علاقة جوار صحية ومتكافئة بين دولة الجنوب المستقلة ودولة اليمن الشقيقة، بما يحفظ مصالح الشعبين ويضمن استقرار الإقليم، بعيدًا عن أوهام الضم والإلحاق التي أثبتت الأيام فشلها الذريع.

فقد اغلق الشعب الجنوبي، بوعيه السياسي المتقدم، كل الأبواب إلا بابًا واحدًا، هو باب الدولة. وهو ينتظر من قيادته في المجلس الانتقالي أن تكون بمستوى هذا الحدث، وأن تترجم هذا التفويض الشعبي إلى قرار سياسي شجاع وحاسم، يعلن قيام الدولة الجنوبية فورًا ودون تلكؤ. فاللحظة مواتية، والعالم لا يحترم إلا الأقوياء الذين يفرضون حقائقهم على الأرض، والجنوب اليوم قوي بشعبه، قوي بجيشه، وقوي بعدالة قضيته. فليكن القرار بحجم التضحيات، وليكن الاستقلال هو العنوان الوحيد للمرحلة، فلا أنصاف حلول في قضايا الأوطان، ولا منطقة وسطى بين التبعية والحرية.
إننا أمام منعطف استراتيجي لا يقبل التأويل؛ فالجنوب قد حسم أمره عسكريًا وشعبيًا، والكرة الآن في ملعب القيادة السياسية لتلتقط هذه اللحظة التاريخية وتحولها إلى واقع دولي معترف به، معلنةً نهاية حقبة وبداية أخرى، عنوانها الجنوب العربي الحر المستقل.