آخر تحديث :الجمعة - 26 أبريل 2024 - 08:40 م

ثقافة وأدب


النشيد الوطني الجنوبي بين الهوية الجنوبية واليمننة

السبت - 28 يناير 2023 - 02:02 م بتوقيت عدن

النشيد الوطني الجنوبي بين الهوية الجنوبية واليمننة

د. سعيد بايونس

المقدمة:
إن النشيد الوطني هو "ذلك اللون من الغناء الذي يعبر عن الحنين إلى الوطن والتغني بأمجاده ويطلق عليه الأغنية الوطنية أو النشيد الوطني"(١ ). ومن نتاج الثقافة في الجنوب تشكيل هوية صلبة سقطت أمامها كل القوى التي اجتاحت الجنوب خلال مراحله التاريخية, وحاول نظام الجمهورية العربية اليمنية "بكل ما أوتي من مال ومكر طمس الهوية الجنوبية (نهب الآثار, هدم المعالم, تغيير الأسماء, وغيرها)"(٢ ).
في الساحات حين انتفض الجنوب لهويته كانت الثقافة عمود هذه الانتفاضة, ولو أخذنا إحدى مقومات هذه الثقافة, وهي الأغنية, سنجد أن الجنوب يمتلك رصيدًا ضخمًا من سجل الأغنية الوطنية, فقد امتلك كل وسائل الأغنية وعناصرها (الشعراء, الملحنين, المغنين), منذ أمد, كما امتلك وسائل إذاعتها (الإذاعة, التلفزيون, شركات الأسطوانات), وهيأت له حياته المنفتحة على من حوله بعدًا آخر هو تلاقح الإيقاعات وتمازجها, فخلق فنًا غنائيًّا كان المدافع الأول عن الهوية الجنوبية.
الدراسة:
يمكننا تقسيم مراحل النشيد الجنوبي إلى الآتي:
أولًا, مرحلة الهوية الجنوبية:
جاءت مرحلة التأطير للهوية الجنوبية في أثناء وجود الاستعمار البريطاني, وشعر الجنوبيون بأهمية بوتقة هذه الهوية؛ لتفعل فعلها في تكون الشخصية الجنوبية القادرة على العطاء والمحبة للإبداع. والشعور بالاستعمار البريطاني ومحاولته المدروسة تقديم ثقافته, دفع الجنوبي إلى التحصن بثقافته كسور منيع لدرء هذا الغزو الفكري من المستعمر, مع أهمية التنويه إلى أن هذا الغزو, كان أقل حدة في تكسير جدران الثقافة الجنوبية, بسبب الخصوصية التي تمتلكها الثقافة الاستعمارية – بالذات البريطانية - بجعل هامش حرية يتيح لثقافة البلد المُستعمَر أن يشكل وجوده في إطار الثقافة دون المساس بالخطوط الاستعمارية الاستراتيجية.
فتشكيل اتحاد الجنوب العربي كان بمثابة التأسيس للوحة الهوية الجنوبية, بعيدًا عن نظرات السياسية التي ادخلت هذا التكوين ضمن المشروع الاستعماري, ومن هنا لابد من إعادة قراءة المشهد السياسي لهذا التكوين بحصافة لإعادة تجريمه أو إنصافه, ومهما يكن فإن الحديث عن الهوية الجنوبية يحتم علينا - من الناحية التاريخية والعلمية - التأكيد على أن مرحلة دولة الجنوب العربي, هي الإطار السياسي الذي أبرز الهوية الجنوبية وجسدها وبوتقها؛ لتكون أيقونة تدفع النضال ضد الاستعمار من خلال الأغنية التي برز فيها مصطلح (الجنوب) واضحًا. فالجنوب كجهة جغرافية في هذه المرحلة كان منسوبًا للعرب, فهو كيان مستقل يمثل بقعة جغرافية تقع جنوب الجزيرة العربية, وليس كيانًا جغرافيًّا يتقاسم الجغرافيا مع كيان جغرافي آخر, في هذه المدة (الجنوب العربي) كان توصيفه مستقلًا وليس شطرًا في مكون جغرافي. ويلحظ القارئ عدم وجود اليمننة في المنجز الشعري الذي أنتج في هذه المدة, كما قال القمندان:
يا عرب في عـدن جنوب الجزيره قسمــًا والصـافـنــات المُغيـره
ما اتركْ الهركلي مولى الضفيره بايقـع في الهوى شدّه بكيره(٣ ).
هذا الكيان الاتحادي لم يؤسس للهوية الجنوبية في اسمه (الجنوب العربي), بل وفي نشيده؛ إذ كتبت صحيفة صوت الجنوب بالبنط العريض على رأس صفحتها الأولى:
"الجيش يقدم للاتحاد نشيدًا وطنيًّا هدية"(٤ ), وبرزت بصمات المايسترو حسين عبدالقوي عندما وضع لحن لهذا النشيد, وكان النشيد "من كلمات الشاعر لطفي جعفر أمان وقام المايسترو بعد ذلك بكتابة النوتة الموسيقية للنشيد وملخص السلام الوطني"(٥). وتقول كلمات هذا النشيد:
عشت يا هذا الجنوب وحدة بين القلوب
من أرادات الشعوب
عشت حرًّا في إباء شامخًا في كبرياء
وتحدٍ للخطوب
عشت حرّ المطلب همّة من لهب
تدفع الحر الأبي
قد رفعنا بالجهاد راية الاتحاد
في الجنوب العربي
جاءت لفظة الجنوب في أوله وآخره, وركز على معان وقيم: اللحمة الجنوبية (عشت يا هذا الجنوب وحدة بين القلوب), وجمع في ثنايا نصه قيم الحرية (عشت حرًّا في إباء), والشموخ (شامخًا في كبرياء), والتحدي (وتحدٍ للخطوب), والجهاد (قد رفعنا بالجهاد راية الاتحاد).
ويبدو من حديث الأستاذة نادرة عبدالقدوس أن هناك نشيدًا كان يردد في مدارس عدن, قبل الاستقلال, هي أنشودة "بلادي وإن سال فيك الدم", وكانت "من تأليف الشاعر الفذّ عبدالله هادي سبيت، وغناء الأسطورة أحمد بن أحمد قاسم، رحمهما الله، وأغلب الظن أنها كانت من تلحين أحمد قاسم"( ٦).
تقول الأغنية الوطنية:
بلادي وإن سال فيك الدم ففي ذلك الشرفُ الأعظمُ
بلادي ومَهْدَ أبي والجُدود صَحَوْنا لِنَكْسِرَ تلك القيود
فها الشعبُ سادَ ويمضي يسود وها الليلُ جادَ ويمضي يجود
فكم مِن بَطَل عليه العمل وفيه الأمل
لِيجْعلَ منكِ عَرينَ الأسود
بلادي بلادي بلادي
بلادي بلادي اسلمي وانعمي سأرويكِ حِينَ الظَمأ مِن دَمِي
وربِّ العُروبةِ لن تُهزَمي ومَن أكملَ الدينِ للمُسْلمِ
سنحمي الجبال وتلك التلال به يُكتَبُ النصرُ للمسلمِ
بلادي بلادي بلادي(٧ ).
ثانيًا, مرحلة الاستقلال:
في بداية مرحلة الاستقلال, كان الجنوب هو الرمز السائد لهذه البقعة الجغرافية, يتضح جليًّا من الأغنيات الوطنية التي أنتجت في تلك المدة, فالجنوبي كان معتزًا بقوميته العربية حريصًا على أن يكون أحد أحجار حصنها المنيع. شهدت هذه المدة تجاذبًا بين سلامين وطنيين؛ سلام وطني للموسيقار يحيى مكي؛ إذ يقف الطلاب في الطابور الصباحي، مستمعين إلى السلام الوطني, وقد "ألفه وأبدع فيه, أستاذ الموسيقى في مدارس عدن المايسترو يحيى مكي، كما كان السلام الوطني بدون كلمات (نَصٍّ)"( ٨).
وسلام وطني آخر للموسيقار عبدالقادر جمعة خان, حين انتقل مع الفرقة النحاسية الحضرمية إلى عدن, بتوجيهات رسمية, فسجلت للإذاعة "السلام الجمهوري في 30 نوفمبر 1967م"( ٩), وكان للفنان عبدالقادر جمعة خان شرف تأليف السلام الجمهوري"( ١٠).
ويؤكد الموسيقار يحيى مكي هذا قائلًا: "وضعت لحنًا لموسيقى الأخبار بعد الاستقلال للتلفزيون, وكان من تأليفي, وقد فاز في المسابقة, ولكني فوجئت بأنهم اعتمدوا لحنًا آخر؛ واللحن كان للفنان عبدالقادر جمعة خان"( ١١).
ظلت بعض مدارس عدن – لشهرة ألحان الموسيقار مكي – تستعمله في طابورها الصباحي, وفعالياتها المدرسية, ولم يكن نشيدًا رسميًّا, إنما بوصفه مشهورًا؛ إذ كانت ألحان المكي مشهورة, علمًا أن لحن أنشودة أنا الجندي قد استخدمت وسائل الإعلام منذ السبعينات, موسيقاها للأخبار والموجز الإذاعي والتلفزيوني, واستمر على ذلك إلى نهاية 1990م"(١٢ ).
بعد العام 1978م, كانت الدعوة جادة أن يكون للسلطة نشيد وطني كبقية الأمم الأخرى، يحتوي على الكلمات والموسيقى؛ فكان اختيارهم قد وقع على أنشودة "بلادي وإن سال فيك الدم", للفنان أحمد بن أحمد قاسم, وقد تم رفضها؛ لما تحتويه في البيتين الأخيرين منها على كلمة "المُسلِم"؛ لتعارضه مع النهج السياسي للسلطة, مما يشير إلى أنها "لا تصلح كنشيد وطني، كما أشيع آنذاك! وبعدها اختفت الأغنية من الإذاعة والتلفزيون، وتم الاحتفاظ بها في أرشيفهما"(١٣ ).
ثالثًا, مرحلة اليمننة:
كانت اليمننة وبالًا على الجنوب؛ إذ التهمت ثقافة عريقة وجيرتها لصالح ثقافة أخرى, وللأسف فقد بالغ الجنوبيون عاطفيًّا في ترسيخ مداميكها أكثر مما هو مطلوب في مرحلة معينة. حين استقر في ذهن السلطة الوليدة بعد الاستقلال - خاصة بعد منتصف السبعينيات – التفكير بوجود نشيد وطني واحد يمثل التوجه السياسي الذي تتبناه السلطة, قدمت الدعوة للمبدعين الجنوبيين؛ لتقديم ما لديهم من أعمال للمفاضلة بينها واختيار الأنسب لتوجه السلطة.
كانت "القومية العربية" تعتمل في بنية السلطة, ومعها بشكل متساوق "الأممية", وكان اليساريون ينشدون قبلتين أمميتين (الصين, والاتحاد السوفيتي), وجاءت الغلبة للاتحاد السوفيتي على وفق رؤية جناح في اليسار. البعد القومي والأممي عاملان موضوعيان مهدا لظهور "اليمننة", سواء أكانت ببراءة المد القومي أم بخبث الخصوصية التي استغلها بعضهم لتمرير اليمننة؛ لطمس ثقافة جغرافيا على حساب ثقافة جغرافيا أخرى. ومهما يكن السبب, وبعيدًا عن نظرية المؤامرة, فالسياق التاريخي يؤيد ظهور اليمننة وطغيانها في تلك المدة مزاحمة لخصوصية الثقافة الجنوبية. كانت القومية والأممية شعارين, امتطهما اليمننة؛ لتحقيق هذا الهدف, بذلك التهمت إنجازات الجنوب وتحول التاريخ لها.
امتلك الجنوب تراثًا غنائيًّا وطنيًّا هائلًا, وفرقًا نحاسية عسكرية على درجة عالية من الإبداع, وقد أبدعت تلك الفرق سلامًا وطنيًّا, ونشيدًا لكثير من سلطنات الجنوب, والمدارس والمعسكرات, وفرق الكشافة منذ الخمسينيات, كل هذا التراكم الفني لم يشفع للجنوب عند الرغبة في اختيار سلامًا وطنيًّا للسلطة الوليدة.
عندما طلبت السلطة من المبدعين تقديم أعمال لاختيار أفضلها نشيدًا وسلامًا وطنيا للجنوب, تقدم عدد من المبدعين الجنوبيين بأعمالهم, الفنان محمد مرشد ناجي بأغنية "يا بلادي" للشاعر لطفي جعفر أمان, وكذلك الفنان أحمد بن أحمد قاسم, والفنان محمد محسن عطروش, فضلًا عن موسيقيين أمثال المايسترو يحيى مكي.
وقع الاختيار على أنشودة لم تكن في إطار المنافسة البتة, وهي أنشودة "رددي أيتها الدنيا نشيدي", كان قد ألفها الشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان (الفضول) على أرجح الروايات منتصف السبعينات, ولحنها الفنان أيوب طارش, ووزع موسيقيتها العقيد حسين عبدالقوي، فصار النشيد الوطني لجمهورية اليمن الديمقراطية، علمًا أن هذه الأنشودة عاشت ونمت في الجمهورية العربية اليمنية، شعرًا ولحنًا وأداء، بل واكتنف ظهوره تجاذبات بين فنانَيها (السنيدار وطارش). ويمكن إجمال هذه التجاذبات في الآتي:
1) ملكية الكلمات:
تضاربت الأقوال بين الفنانين (السنيدار وطارش) حول هذا النشيد وكان ساحة لمعارك كلامية حتى صار محل شبهه, فالفنان أيوب طارش يقول أن القصيدة (رددي أيتها الدنيا نشيدي), سلمت له أوائل عام 1978م, في حين سلمت للفنان السنيدار في عام 1974م.
2) ملكية اللحن:
يرى السنيدار أن معظم لحن هذا النشيد هو له مع تغيير طفيف في مطلعه, واحتفظ بلحنه بالتوزيع الموسيقي الذي قام به الكوريون, وقام بتسجله في إذاعة وتلفزيون صنعاء, وفي إذاعة وتلفزيون عدن, وشارك به في دولة الكويت بمناسبة احتفالات عيد ثورة 26 سبتمبر( ).
ولقد كان للجنوب دورًا في هذا النشيد, لكن تم طمسه والتشكيك فيه, وانقل عبارة الفنان السنيدار عن لحن هذا النشيد؛ إذ يقول: "أنا عملت فيه شيئًا وأيوب عمل فيه شيئاً آخر, والمرحوم أحمد قاسم, لكن المهم هو عمل وطني ولسنا بحاجة أن يقال عمله (فلتان) أو (زعطان). في إشارة متهكمة إلى الفنان أيوب طارش. وقد ألمح أيوب طارش إلى الإضافات اللحنية لهذا النشيد, مشككًا بلفظة (ربما), لتلك الإضافات, في قوله: "هناك ربما محاولات لتلحين القصيدة من أكثر من فنان (كأحمد قاسم، وعطروش، السنيدار)"( ١٤). كما لعب المايسترو حسين عبدالقوي دورًا في كتابة نوتته الموسيقية( ١٥).
واعترف السنيدار وطارش في لقاءتهما إنهما سجلا هذا اللحن في إذاعة عدن وتلفزيونها, بعد اللمسات الفنية للفرق الخاصة بالتلفزيون والإذاعة, وضبط الإيقاعات, وعمل التوزيع الموسيقي لها.
أما ما يخص اعتماد النشيد (رددي أيتها الدنيا نشيدي), كنشيد للجنوب, فقد تضاربت الأقوال؛ فمنهم من يؤكد أنه تم اختياره من قبل مجلس الشعب الأعلى في عدن عام 1977م(١٦ ).
يؤكد المايسترو حسين عبدالقوي قائلًا: "لقد قمت بإعداد وصياغة النوتة الموسيقية للنشيد الوطني (رددي أيتها الدنيا نشيدي), في مطلع الثمانينات وعلى وجه التحديد في عهد الرئيس الأسبق علي ناصر محمد والذي تم اعتماده كنشيد رسمي لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية, ومنه تم إعداد ملخص (السلام الوطني الرسمي) آنذاك"( ١٧).
في حين يروي الفنان أيوب طارش أنه "في أحدى ليالي رمضان من العام 1982م, حينما كنا نقوم بالبروفات زارنا فجأة الرئيس علي ناصر, وطلب مني أن تكون أنشودة "رددي أيتها الدنيا نشيدي" نشيدًا وسلامًا وطنيًّا للجنوب, واقترح أن يكون مدة السلام دقيقة, ومدة النشيد عشر دقائق( ١٨).
لعبت المشاعر الجياشة للجنوبيين في اعتماد (رددي) نشيدًا وطنيًّا, وانتفى البعد السياسي؛ حيث كان النشيد الوطني وعلم الجمهورية ضمن المشروع الذي وقعته القيادة في ليلة الـ30 من نوفمبر 1989م والذي عرف باتفاق عدن التاريخي.
فقدم نشيدا الجمهوريتن للمفاضلة (في ظل راية ثورتي), و(رددي أيتها الدنيا نشيدي), علمًا أنهما يمثلان كلاهما الطرف الآخر, وليس للجنوب أي دلالة فيهما. وحين احتدم النقاش جاء القرار منفردًا من علي عبدالله صالح أن "يكون الكلمات التي ألفها الأستاذ عبدالله عبدالوهاب نعمان (الفضول) وموسيقى الفنان أيوب طارش( ١٩). وتم الاختصار لأكثر من ثلث القصيدة الأصلية, التي كتبها الشاعر الفضول، حيث كان فيه كلام أكثر من اللازم, لكي يكون نشيدًا وطنيًّا كما أجري عليه تعديل باستبدال كلمة (أمميا) بكلمة (سرمديا)، هذه اللفظة (أمميًّا) مؤشرًا على ما يكنه الطرف الآخر لدلالة هذه اللفظة (الإنسانية), وقد برر الطرف الآخر أن لفظة (أمميًّا), لم تكن في نص الفضول الأصلي, في حين أن التأكيد جاء منهم على أنها أصلية في النص وتتناسب مع التسلسل المنطقي (يمنيا, عربيا, أمميا)( ٢٠).
رابعًا, مرحلة العودة للهوية الجنوبية:
استمرت اليمننة تفعل فعلها بطريقة سلسة وبرضا الجنوبيين على وفق السياسة التي فرضت منذ وقت طويل, لكن الحرب الغاشمة على الجنوب في صيف العام 1994م, أحدثت هزة نفسية وفكرية في شخصية الجنوبي الذي شعر حينها بخديعة الشعار, وزيف الوحدة وجبروت اليمننة, وعاش مرحلة ترقب للمرحلة المفروضة, وأصبحت اليمننة بعد حرب 1994م, أكثر ضراوة على الجنوب مستخدمة القوة, بعد أن كانت مفروضة – بالخديعة - عاطفيًّا, وكان الرفض للحرب مستمرًا بوساطة الأغنية الجنوبية. انطلق الجنوب في ثورته العارمة منذ 2007م, واحتاجت هذه الثورة إلى نشيد يوحد الجنوبين, ويرفع وتيرة حماسهم, ولم يكن في الجنوب منذ بدء نضاله إلا نشيدًا "من مقطع واحد فقط، يُسّمى النشيد الجنوبي المؤقت (بلادي بلادي بلاد الجنوب وجمهورية عاصمتها عدن)"(٢١ )
وجاءت دعوات مبكرة إلى وجود نشيد وطني للجنوب يعود بنا إلى هويتنا الجنوبية الخالصة, ومنها "إعادة لحن أغنية هادي سبيت الوطنية المَنسِّية "بلادي وإن سال فيك الدم"، وتسجيلها عزفًا موسيقيًّا على أقل تقدير، ثم نشيدًا كوراليًّا جماعيًّا بفرقة نحاسية"( ٢٢).
ميلاد النشيد الوطني الجنوبي:
كان هاجس كتابة نشيدٍ جنوبيٍّ تراود الشاب حسين بايعشوت, منذ العام 2007م, بل أن اللحن قد اختمر في ذهنه, وصار جاهزًا, ويقف الواقع عائقًا أمامه؛ بسبب القبضة الحديدة لقوات الأمن المركزي والاستخبارات, وقد توفرت لديه كل عناصر التفكير بعمل جبار كهذا؛ كونه شاعرًا وملحنًا, وناشطًا في الحراك السلمي في مدينة الشحر. فقرر في العام 2010م, أن تصاغ كلمات النشيد من شاعر آخر غيره, فذهب لابن الشحر الآخر الشاعر محمد بن داود وكانت السرية هي غطاء عملهم؛ لإنجاز هذا العمل, استلم الشاعر في بداية عام 2011م, اللحن وبدأ يكتب كلمات النشيد على تركيبة اللحن, وقد استغرق من الوقت سنة حتى انتهي المشروع كاملاً في عام 2012م(٢٣ ).
اكتمل مشروع كتابة النشيد وتلحينه, وظلت مهمة تسجيله؛ ليخرج للنور هاجسًا آخر, فهيأ الله أحد المخلصين وهو أشرف بدر قحطان (صديق بايعشوت), إذ بدأ يجمع المال بسرية تامة من التجار الحضارم. ومن أركان خروج هذا العمل صاحب استريو سمعون, الذي تحمل تبعات هذا العمل ومخاطرته مع رفاقه؛ لتلبية نداء الجنوب, وقام بتجهيز العمل الوطني في دقة وبسرية تامة. ويكتمل عناصر العمل الفني هذا بناشط جنوبي (ماهر براهم)؛ لعمل نسخ من النشيد في قرص (CD)؛ ليتم إرسالها للقادة الجنوبيين, ومكتب الرئيس علي سالم البيض, وقناة عدن لايف(٢٤ ).
كما شكلت استجابة القيادة لهذا الإبداع إضافة نوعية جسدت العمل الوطني, ففي 31 أكتوبر 2017م التقى رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي الرئيس عيدروس الزُبيدي، بمقر إقامته في مدينة المكلا بمحافظة حضرموت معدّي النشيد الوطني الجنوبي من أبناء مديرية الشحر الشاعر محمد سالم بن داود والملحن حسين سعيد بايعشوت. فوجه الرئيس القائد إلى إعادة تسجيل النشيد مجددًا في إحدى الدول العربية (٢٥ ).
كلمات النشيد الوطني الجنوبي للشاعر محمد بن داود, والملحن: حسين بايعشوت:
موطنــــي
عزتـــــــي سوفَ أحميكَ بروحي ودمي
ثورتــــــي
رايتــــــي في العُلى والمجد تحيى يا جنـوب
اللَّهُ أكبر للعدى .. تدوي في الدنيا نشيد
كُلُّ الوفاء والولاء .. لموطني وللشهيـد
ترابُهُ كُحلُ العيون
أرواحنا فيه تهون
قسمًا بربي لا نخون
إنّا أُسود في الحروب
نحميك يا أرض الجنوب
نرعى الجوار والذمام
إسلامُنا دين الســلام
يا بــــلادي يا بـــــلادي
أنتِ في قلبي ضياء لا يغيــب
من شموس العزّ، والحبِّ الرهيب
عشتِ يا أرضي الحبيبـة
حُــرةً دومًا مهيبــة
لـن تكونـي أبدًا يومًـا سليبة.
وبنظرة أولية على التراكيب والصيغ, نجد أنها اكتنزت دلالات وطنية, وقيمًا ثورية, وهناك أربعة عناصر ارتكز عليها النشيد:
الدين: (إسلامُنا دين الســلام).
الجنوب: تردد فيه الجنوب مرتين, أرضي (مرتين) بلادي (مرتين) وطني (مرتين).
الثورة: (ثورتــــــي ... رايتي).
الشهيد: (كُلُّ الوفاء والولاء .. لموطني وللشهيـد).
وانتشرت في ثنايا النشيد كثير من القيم الوطنية:
حمايته: (سوفَ أحميكَ بروحي ودمي), (اللَّهُ أكبر للعدى .. تدوي في الدنيا نشيد) (أرواحنا فيه تهون) (نحميك يا أرض الجنوب) (لـن تكونـي أبدًا يومًـا سليبة). الإنتماء: (ترابُهُ كُحلُ العيون) (أنتِ في قلبي ضياء لا يغيــب) (عشتِ يا أرضي الحبيبـة) (والحبِّ الرهيب), العلى والمجد: (رايتــــــي في العُلى والمجد تحيى يا جنـوب), العزة: (موطنــــي عزتـــــــي), (من شموس العزّ)، الإخلاص: (قسمًا بربي لا نخون), الشجاعة: (إنّا أُسود في الحروب), حسن الجوار: (نرعى الجوار والذمام), الحرية والهيبة: (حُــرةً دومًا مهيبــة).
وفي ظني أن المرتكزات الأربعة تمثل عودة لمحيطنا بعيدًا عن الدعوات المتجاوزة لوقعنا (الجنوبي, العربي, الإسلامي). كما أن مجموعة القيم تمثل التوازن الوطني لحماية الجنوب وإعادة دوره الرائد.
الخاتمة:
النشيد الجنوبي هو أيقونة الهوية, ومبعث فخرها وعزها, فالحفاظ عليه والتوعيه بأهميته يشكلان مصدر للحمة الجنوبية, فالشعوب تحتفظ بنشيدها الوطني مئات السنين, رغم كل الانتكاسات التي تحدث, يكون النشيد بمنأى عن هذه الصراعات. وفي الجنوب كانت الصراعات تستبدل النشيد وتعبث به, فلم يحقق هدفه عبر الأجيال. هذا نشيدنا الذي استقر في وجدان الجنوبيين, ووجد الرضا والقبول, فيجب المحافظة عليها, وخلق الظروف التي تصونه وتضمن استمراريته.
مظان الدراسة
الكتب:
• الأغنية الجنوبية أيقونة الهوية والإنتماء, سعيد بايونس, مجلة فنار الثقافية, العدد صفر, سبتمبر 2020م.
• الأواصر الغنائية بين اليمن والخليج, خالد محمد القاسمي, دار الحداثة, بيروت, ط2, 1988م.
• محمد جمعة خان (الأغنية الحضرمية الخالدة), عزيز الثعالبي,جامعة عدن, ط1, 2012م.
• المصدر المفيد في غناء لحج الجديد, الأمير: أحمد فضل بن علي العبدلي "القمندان", جمع وإعداد: إبراهيم راسم, شرح: عوض باجناح, دار الهمداني, عدن, ط2, 1983م.
• يحيى مكي موسيقار الأجيال, المجلس الثقافي لأندية عدن, ولجنة تكريم الموسيقار يحيى مكي.
المجلات والصحف والمواقع:
• البردوني والنشيد الوطني, ثابت الأحمدي, موقع الجديد, 04 سبتمبر, 2020م.
• تفاصيل لم تكن معروفة عن النشيد الوطني, منصور الغدره, صحيفة 26 سبتمبر, العدد: (1197), 22 مايو 2005م.
• صحيفة صوت الجنوب, العدد (40), الأحد, 18 مارس 1962م.
• الفرقة الموسيقية الحضرمية, د. سعيد بايونس, فنار عدن الثقافية, العدد الأول, يوليو 2021م.
• المايسترو حسين عبدالقوي, علي منصور أحمد, صحيفة الأيام, 25 يوليو 2005م.
• الملحن بايعشوت يروي لـ4 مايو فكرة النشيد الوطني الجنوبي والمراحل التي مر بها, 27 مارس 2018م.
• من الاحتلال حتى الاستقلال: أحداث التاريخ في الشعر اللحجي, سند حسين شهاب, صحيفة الأيام, الأول من ديسمبر 2014م.
• موقع المجلس الانتقالي الانتقالي الجنوبي, ٣١ أكتوبر ٢٠١٧م.
• النشيد الوطني الجنوبي الضائع, نادرة عبدالقدوس, صحيفة عدن الغد, 16 نوفمبر 2014م.
• ورحل مايسترو الجنوب حسين عبدالقوي, صلاح السقلدي, صحيفة عدن الغد, 21 أغسطس 2011م.
• وفاة الموسيقار الكبير العميد «حسين عبدالقوي» كاتب نوتة النشيد الوطني في جمهورية اليمن الديمقراطية, مأرب برس, 20 أغسطس 2011م.