آخر تحديث :الخميس - 25 أبريل 2024 - 04:40 ص

ثقافة وأدب


هرم ثقافي عصارةُ تفاعلٍ ناعم لحضارات وثقافات

السبت - 03 يونيو 2023 - 02:52 م بتوقيت عدن

هرم ثقافي عصارةُ تفاعلٍ ناعم لحضارات وثقافات

كتب/ فهمي غانم

باكثير ذاكرة الشعر..

يسترعي إنتباهنا ونحن نتحدث عن هرم ثقافي يمني مصري حضرمي الأصل أن ننقب في جوف الهرم عما يدلنا عن تاريخه وعن تلك المؤشرات التي صنعت ذالك البناء الضخم وجعلت منه أيقونة العصر الأدبي منذ ثلاثينيات القرن الماضي..

إنّه ببساطة شديدة الأديب والشاعر والكاتب المسرحي الكبير الأستاذ علي أحمد محمد باكثير الكندي هو عصارةُ تفاعلٍ ناعم لحضارات وثقافات تفاعلتْ في تشكيل وعيه فأنتجتْ فعلها وأثمرت ذالك الحصاد الإبداعي الذي جاب البلدان فزار مسارحها واطّلع على منجزاتها وفنونها وثقافتها وقرأ مابين سطورها فهضمه بشكلٍ واعٍ وأعاد تشكيله وفقاً لخصائصه الإبداعية فكان ذالك الإنتاج الغزير والمتنوع الذي صعدَ به إلى سدّة العرش الأدبي حتى فاقَ أقرانه من أدباء عصره ومثقفيهم وصاغه بكلِّ أناقةِ الحرف وسحر الكلمة وعذوبة الشعر فأصبح حاضراً في المشهد الثقافي والأدبي بلا منازع وزاد عليها ماجمعه من علم واسع وثقافة منهجية من أروقة الجامعات الأوربية وتأثره بمناهجها النقدية ومدارسها الأدبية حتى كأنّكَ تحسُّ أنَّ الرجل ضربَ جذوره في عمقها وأستخلص ثمارها فأجاد تلوينَ أعماله الشعرية والأدبيه والمسرحية حتى أستقامتْ على نحوٍ أسّس به كيانه الخاص المكتمل المبنى والمعنى وبشكلٍ رفيع وسلس..

كان لميلاده ونشأته الاولى في بلدة سوروابايا بأندونسيا عام 1910م أثر في التكوين الجنيني للقابلية الذوقية ثمَّ تفاعلتْ مع بداية نضوجه الأدبي في قلب مصر التي اكتسبَ جنسيتها وشهرته منها لكن روحه ظلَّ حضرمياً هائماً مع تلك الآكام والروابي وعينه حيثُ البشارات الاولى في سيئون وإكتساب الحرف وتعلُّمْ الكلِم كما كان لوجوده في عدن أثناء مروره في رحلته وإغترابه دوراً في تكوينه وتأملاته الأدبية ومطالعاته الجمالية حيث وجدَ عدن حاضرةَ البلدان وأحسَّ أنّ هناك حراكاً ثقافياً وأدبياً وفنياً ومجتمعياً فتعرّفَ على تلك الكتلةِ الثقافية النوّعية من أبناءها وخاصة آل لقمان وعميدهم محمد علي لقمان المحامي وأحمد محمد الأصنج ومحمد عبد غانم وعاش معهم دورهم التنويري فزاده ذالك جرعةً ثقافيه ووسّعَ حلمه وألهبَ خياله وتطلّعه نحو أفقه الذي رسمه وقد كان من نتيجة ذالك أنْ نظمَ بعضَ الأبيات الحميمية في وصف عدن..

إستودع الله عدن
ومسقط رأسي والسكن
وكلّ مافيها قوى
وكلّ من فيها سكن
من فوقِ شمسان
إلى مرسى البواخر والسفن
----------
كلُّ هذه المصادر كان لها تأثيرها الإيجابي التي طبعت حياته كلّها فتحركتْ لوازمُ الإبداع عنده وبوصلته نحوَ إستشفاف هذه التركيبة وجعلها معياراً لجودةِ أعماله..
إنّنا عندما نقرأ باكثير وأعماله أو نحاول تفكيك النصّ الإبداعي وخاصة المسرحي علينا أن نفكّر بذالك المناخ الثقافي والجو الملّبد بقيم الحبِّ والجمال وعصر الحراك الأدبي الذي عاشه باكثير حتى نضمنَ لأنفسنا مسافةً معقولة تقرّبنا إليه لفهمه وتعرّفنا بحجم الرجل وقامته فقد ملئَ كلَّ الفراغات وشغلَ كلَّ المساحات ونذرَ نفسه إلى مايمكن أنْ نطلق عليه الجهاد الأدبي المقدّس لإعلاء صوت الكلمةِ الشعرية وتصحيح مسار الحرف الأدبي حتى يكون في الطليعة والواجهة العصرية وقد انعكس ذالك على نضوج أعماله فباكثير كان على وفاقٍ تام مع عباراته فلم يقحمها على نحوٍ فيه إخلال بتوازنها وحركتها الإنسياببة ولم يلوِ عنقها على نحوٍ تعسفي بل جاءت كلّها تشئ إلى مخزون الرجل وسعةِ أفقه وعلو كعبه وإنحيازه بجدارةٍ نحو تجويدها وعصرنتها والعناية بها وصيانتها من أنْ تنزلق نحو مربّع الشطط أوالغرور لهذا نرى أنّه يحنو على شعره ويفرغ فيه عاطفته التي استفرغها من مدارس الادب خاصةً الكلاسيكي والرومانسي..
ياحبيبي بردَ العقدُ*
ولم يبردْ على الرشفِ صداي
آه ماأحلاكَ في قلبي وعيني
وذراعي ولساني
ليتني أفني بعينيك فأحيا
في نعيمٍ غير فانٍ
---------
إنَّ أديبنا الكبير علي أحمد باكثير شخصيةٌ عصامية قرأتْ الفكرَ والثقافة العالمية بنفسٍ مشتاقة وقلبٍ عاشق للمعرفة وعقلٍ منفتح على الآخر حتى أصبحَ حالةً ثقافيةً أسّس مداميكها على نحوٍ مشرق فكان أديباً عملاقاً في عصرٍ كان النبوغ هو أحدُ أهمّ إشتراطات النجاح فيه لهذا كان الأديب العالمي علي أحمد باكثير لساناً رطباً في قول الشعر وتسطير الأدب وبناء عمل مسرحي شعري ونثري متكامل تميّز فيه وأخذَ خاماته من التاريخ والواقع المُعاش فكان علامةً فارقة وسطَ أقرانه من الكبار أمثال العقاد والمازني ونجيب محفوظ وصالح جودت ومحي الدين الخطيب..
درسَ الشاعرُ الكبير علي أحمد باكثير التاريخَ الإسلامي وتاريخ العرب وتاريخ مصر القديمة وبالطبع التاريخ اليمني وخاصة تاريخ مملكة كندا القديمة التي تمددت على مساحات واسعة من الخارطة الكونية وقد ألقى عليه ذالك مسؤليةً إضافية ومهمة تاريخية وأخلاقية في إبراز هذا التكوين الحضاري بنسيجه المشترك واطّلع على مجمل الحضارات القديمة التي كانت مصدراً معرفياً علمياً وحضارياً هاماً بالنسبة له فدرسها دراسةً واعية متفهماً لضروراتها غاص فيها ليخرجَ عروقَ الذهب منها فأعادَ تشخيصها واستنطقها فعالجها معالجةً فنية ورفعَ قيمَ التذوّق والجمال مستخذماً أدواته الفنية التي طرح من خلالها معالجاته الدراميّة حتى أصبحت حاضرةً في الوعي الجمعي للمتلقيّن الذين أحسّوا بأنّ ثمّةَ إنبهار يشعُّ منها وأنَّ الشخوصَ لاتمثّل الماضي بل هو الحاضر معكوساً ومرآةً ناصعة للحقيقة بمعنى آخر أعاد تخليق الشخوص بشكل إحترافي ومهني تبدو كأنّها تعيش وتتنفس معنا فمكّنها من محاكاة العصر بحساسيةٍ مهنية وقابليةٍ إبداعية وحضورٍ ناضج مرسوم بعناية في سرديةٍ ثقافية وعلمية من المتواليات والمشاهدِ الرمزية لشحنِ الحاضرِ على نحوٍ يبعث على الأمل في إستنهاضِ الأمّة وإعادةِ تموضعها في المكان اللائق بها ويشهدُ له العديد من الأعمال المسرحية والدواوين الشعرية والكتابات النثرية وأنجزَ الملحمةَ الإسلامية الكبرى عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ومسرحية عن غزو نابليون لمصر (ومسرحية أخناتون والملكة نفرتيتي)..وقد علّقَ عليها الأديب الكبير عبد القادر المازني..(تحفة جذيرة بالإكبار ففيها متعة العقل والنفس )لقد استطاع باكثير أن يصّور عصر أحناتون والملكة نفرتيتي وجمالها ودلالها وعذوبتها وعن احوال مصر وتأصيلها العربي الإسلامي والمسرحية فالمسرحية شكل من أشكال المناورة السياسية داخل دولاب الحكم وصراع أخناتون مع الكهنة ثمّ تآمرهم عليه فتبرز حبيبته نفرتيتي لتكمل المشوار وتنتصر لقيم حبيبها بعد موته..
لم يتعمدْ باكثير إستعراض التاريخ وإستدعاه لترفٍ عقلي أو نفي للحاضر لكنّه تعاملَ معه بمنهجيةٍ نقدية وبصورة تنويرية لم يستعطفه أو يبكي أطلاله بل وقفَ أمامه بشموخ العلم والمعرفة أخرجَ منه تلك الدماملَ التي علقتْ فيه من تناولات أساءت إليه فتعامل معه بحساسيةِ العالم والأديب المبدع عمل على رفعِ درجة الوعي بأحداثه وأهميتها التاريخية فأزالَ ركامَ السنوات عليه التي عملت على تأطيره في مفهومٍ ضيق وتناولٍ سمج أراد الإساءةَ للتاريخ وتعطيل مفاعله والإستهزاء به للتقليل من شأنه فكان من باكثير أن أعادَ رسمَ أحداثه وشخصياته بشكلٍ منطقي وقابلٍ للحياة والتنفّس وفقاً للضرورة الإبداعية لهذا الشاعر المبدع ولسان حاله دعونا من التلاعب بالتاريخ وتفسيره وفقاً لمزامير الهوى أو هواجس أحلام اليقظة ولعلَّ أهم مايميّز أعمال باكثير التراثية أنّه استخدمَ الرمز التاريخي كمعادلٍ موضوعي لما يحصل في الحياة المعاصرة بمعنى آخر تعامل مع الذاكرة التاريخية والإنسانية وفنونها الأدبية والشعرية عبر المدى الزمني بكثير من الحصافة الإبداعية وهذا يُسّجل له في كلّ أعماله وخاصةً المسرحيات منها كما في مسرحية عقدة أُوديب حيث الرمزية المكثفة فانتصر لبطلها بعد أن كان منكسراً وهذا نلحظه في عدد من المتواليات المسرحية التراجيدية الذي أعاد صياغة نهائياتها بشكل درامي يخدم موقفه الفلسفي والثقافي وإنحيازه القومي والإسلامي مثل ماسآة زينب وفاوست الجديد وسحر شهرزاد إذ البسها ثوباً آخر وطوعها لخدمة مايؤمن به فرسمَ لها نهائيات إيجابية ظهرتْ منتصرةً في سياقها الدرامي الجدلي وكان ذالك من باكثير لتوصيل المعنى المخفي وأعطى مساحةً معتبرةً لتفعيلِ العقل وإستنهاضِ الوعي وتشغيلِ مفاتيح المعرفة لبلوغ المدارك وترقيقِ المشاعر وتهذيبِ السلوك الإنساني بشكلٍ عام والثقافي والأدبي بشكل خاص فحقّقَ لنا مشاهدَ حيّةً بانورامية من التاريخ وبسطه لنا لا لنقرأه فقط بل لنتأمله ونعيش سحره وألقه فزادنا نضجاً وعمقاً وخبرةً وشغفاً به..
إن الأديب الكبير باكثير إستخدم نظريةَ الإسقاط التاريخي على أحداثه وجيّرها لخدمة النص ولم يكنْ ذالك بعفويةٍ تلقائية أو إفتراضية فلم يلتبسْ عليه الأمر أو يتوه في دهاليزه وحفرياته بل تمّ ذالك بذكاءٍ شديد وإستقراءٍ موضوعي منهجي قاسَ عليها تجربته مع التراث والتاريخ وإدراك ظواهره ومخرجاته فانسابَ كلُّ ذالك في خزينةِ عقله وبيتِ أسراره ليعيدَ صناعتها وصياغتها على شكل ذررٍ من الأعمال النّوعية التي تقرأها
فتحسُّ بمتعتها فهو ثريُّ الألفاظ عميقُ المعنى ذو حساسيةٍ عالية في إختيار العبارة على قدر معناها..
لقد عمل الفذ باكثير على حقنِ الوعي الجمعي الثقافي بمستلزمات البصيرةِ الإبداعية إذا صحّ القول وعمل على رفدِ طاقاتنا بما يجعلنا دائماً في المجال الحيوي بما جادت به قريحته وقدرته التنويرية وألمعيته وصعود نجمه في الآفاق..
لقد جاءتْ مفرداته
الشعريةُ والنثرية متوازيةً مع المعاني في أنساقٍ ثابتة ولغةٍ رصينة تعكسُ قدرةَ الرجل على عرض أفكاره ومواهبه بدون الإخلال بالبناء الهرمي للنّص بحيثُ يبدو متوازناً وبتصميمٍ فنيٍ رفيع بعيد عن إستهلاك اللغة أوإستدرارِ العاطفة نحو شخصياته أو تمييع الأحداث وبذالك حقّقَ الإستقامةَ للنّص وعبرَ به نحوَ العالمية..
يانجمةَ الأملِ المغشى بالألم*
كوني دليلي في محلولكِ الظلم
في ليلةٍ من ليالي القدِّ حالكة صخّابة بصدى الارياحِ والدّيَمِ
---------
إحتساء كأس الأدب والتمتع بخمرته ليس عمل رجل مبتدء أراد أن ينسج خيوطا واهية من فعله الأدبي وإنما هي روحٌ تسامقَ إنتشاءها بين ندامةِ القول وإبتهاجِ الحرف في لغة الشعر وهذا ماكان عليه الأديب الكبير علي أحمد باكثير..

----------