آخر تحديث :الخميس - 10 أكتوبر 2024 - 11:49 م

ثقافة وأدب


أيام برفقة أبي .. !!

الجمعة - 13 سبتمبر 2024 - 06:48 م بتوقيت عدن

أيام برفقة أبي .. !!

كتب/وجدي صبيح

كانت صباحات جميلة نركض بها خلف خطى أبي بين أشجار المزرعة..كانت الشمس لا ترسل خيوط أشعتها إلا وقد أحتسينا عدد من كاسات الشاي من بين يدي أمي والتهمنا كسرات خبزها الطري تواً قد أخرجته من التنار بيديها وهي تخترق لهيبه دون خوف أو عجز أو ملل بعد أن جمعنا لها أعواد من الحطب ، إنها أمي وقد أخذت مكانها على مقربة من أبي ونحن حولهم كفراخ صغير ملبدة وجوهنا كسحابة صغيرة من أثر النوم الهانئ والهادئ في الليلة السابقة .. نوم لا يكدر صفوه شيء يشبه السفر إلى الخلود بطريق الجنة على جواداً أبيض يقوده ملآك .

يظل أبي يستمتع بشرب الشاي وقد بسط رجلاه بعدد لا يحصى من فناجينه ، وهو لا يتوقف خلال ذلك عن إشعال النار في سجارة خلفها سيجارة برفقة أبتسامة لا تكاد ترى وقد أطلق العنان لنفسه يستمتع بذاك الصباح ونسيم المزرعة المنبثق من كل شجرة ليخرج على هيئة رحيق باعث للحياة والسعادة والراحة .. وأنا وإخوتي قد مضينا نحلق في ربوع تلك المزرعة نطوف أرجائها لا نعرف ماذا نريد .. لنذهب بعد برهة ننصب شراكنا ومصيدتنا للحمام الذي كان يغزُ مزرعتنا وهو يسابق الصباح .. لنختفي ونترقبها وهي تقود نفسها نحو المصيدة لتحتبس أنفاسنا وهي تستمتع بتلك اللحظات .. لتعلق وأحدة أو أثنتين بالمصيدة ، لنخرج لها كصغار ذئاب من مخبئنا ونركض نحوها ونمسك بها ، لتتضاعف تلك الفرحة إلى فرحات وسعادة أكبر تكاد تجعل مننا قطناً منثور كجراد يجتاح تلك المزرعة .

أنه أبي كان لا أحد يعتني بتلك المزرعة غيره .. إنها ظلت لسنوات ممتنة له .. وكل كائن قد ربى هناك .. كان مهتماً بها .. طيورها حيواناتها ..حشراتها .. أغنامها .. جمالها .. وكل شيء يتنفس بها .. كان لا يتوقف عن تقليم أظافر كل أغنام المزرعة بعد جولة من الغسل والتنظيف بمياه المزرعة الطرية المتدفقة كان يجعل منها خرافة براقة جميلة نظيفة رشيقة لا تتوقف عن الركض وكأنها تريد الذهاب إلى الحديقة أو المدرسة .

أنه الأب وحنانه هنا له ذكرى في يوم وفاته الحزين .. وله ذكرى في سواد كل ليلة ثقيلة وأيام مرة .. إنني والكثير مثلي .. في تلك الليالي المبعثرة لم أتمنى ألا لو أن أبي كان موجوداً ، ومازال على قيد الحياة ، لأسند ظهري المتعب على جداره ، وأستريح بظله ، وأشتكي لعكازه ، لحظات من اليأس والعجز ، جعلت مني طفل صغير يريد أباه ، عرفت فيها معنى الأب ، وأنه ليس مجرد رجل عجوز يعيش بيننا بثوب قديم الطراز قد فقد معظم لونه ، وأنه ليس مجرد رجل نتحاشى الإقتراب منه بين جدران بيتنا ، ونشعر بالملل من حديثه الذي يستمر بإعادته ، أنه ليس كذلك مهما كان كذلك ، فإنه لا يحب أن يكون وحيداً ، ولا يحب الغرق في الصمت كما نجده كثيراً ، ولا يكره الإبتسامة والضحك ، بل هو درع وحاجز يدفع عننا مصائب الليل والنهار ، يصد عن صدورنا خناجر قد تحيل حياتنا دونه إلى جحيم لا يطاق .

غفر الله له ورحمه واسكنه فسيح جناته وكل أب وأم آمين يارب العالمين
13 سبتمبر 2024م