صباح الخير. شاهدت الفلم الوثائقي لقناة العربية الذي لخص الأيام الأخيرة في حياة الرئيس السابق علي عبدالله صالح قبل مقتله على يد الحوثيين. التوقيت مثير للشك بطبيعة الحال لأنه يأتي بعد سنوات من هذا الحدث، وربما هذا متعلق بموافقة مدين نجل صالح التي تأخرت. ولكن لا أخفي أن المعلومات التي قدمها ضيوف الفلم أجابت عن جزء مهم من تساؤلاتي بشأن ما حدث للرجل الذي حكم اليمن قرابة عقدين من الزمان وقبلها حكم شمال اليمن لسنوات طويلة.
بالنسبة لي، علي عبدالله صالح يمثل اليمن بكل تناقضاتها وتعقيداتها وحسناتها ومساوئها. ترك لنا في الجنوب إرثًا كبيرًا من الألم والكراهية والظلم والجور، لكن مع مرور الوقت يتكشف أنه كان مجرد فرد في منظومة تعودت لقرون وربما لآلاف السنين على العيش بهذه الطريقة. أعني السيطرة والظلم والإقصاء. لم يكن بإمكانه فعل الكثير لتغيير هذا الواقع، فهو كان مدركاً لما يعنيه الخروج على هذه المنظومة. وقد تهدّد حكم علي عبدالله صالح عندما انشق عنه آل الأحمر وليس عندما اندلعت ثورة الشباب. وهذا دليل على أن ما حصل كان انقسامًا في المنظومة نفسها التي تتميز بأوجه مختلفة لكنها تتطابق إلى حد ما في الأساليب والأهداف.
علي عبدالله صالح كان شجاعاً، نعم. يتفق على ذلك أصدقاؤه وأعداؤه معًا. وربما نتفق جميعاً على هذا الأمر لكن لكل حساباته ومكابرته التي تمنعه من قول ذلك. والشجاعة ليست دائماً في صورتها الإيجابية كما يتخيل البعض. كان صالح شجاعاً، إلا أمام شيء واحد، شهوة السلطة. ولذلك انخرط في تحالف كارثي مع جماعة الحوثيين. لم يكن لرجل مثله خبر السياسة وأهلها والقتال وساحاته أن يجهل خطورة هذا الاصطفاف، لكنه أراد تجريب الرقصة الآخرين على رؤوس الثعابين كما فعل لسنوات. ولكن هذه المرة كانت الثعابين أكثر غدرًا، مما توقع، بل أكثر كراهية وحقدًا وظلامية. وباعتقادي فإن مقتله سواء في منزله أو في طريقه إلى مسقط رأسه لا ينتقص من قيمة الرجل على الاطلاق.
وربما اختلاف الروايات بشأن هذا الأمر مرده غبار المعركة الحقيقية التي دارت في قلب صنعاء لأيام. وفي قصة صالح الأخيرة ثلاثة أطراف رئيسية، هو وأولاده وابن أخوه طارق ورفيق دربه الزوكا كطرف، جماعة الحوثيين القادمة من وراء جدار التاريخ بمعتقداتها وأفكارها، والقبائل التي لم يدرك صالح إنها انكسرت داخلياً ونفسيًا ولم تعد تلك القبائل الشرسة التي يحشدها في ميدان السبعين بنداء واحد منه. هل ما فعله صالح في أيامه الأخيرة يصوب سنوات كاملة من الخطأ؟ لست في صدد الإجابة عن هذا السؤال فأنا لا أحبذ محاكمة التاريخ والأشخاص. لكن صالح خلف وراءه تاريخاً مثيرًا للاهتمام وغنيّا بالعبر والدروس.
إن ما يهم اليوم هو المضي قدماً في قتال الحوثيين. ما يهم اليوم هي المقاومة الوطنية في الساحل الغربي لليمن التي يقودها العميد طارق صالح. رغم تجربتها السياسية الحديثة، كان لديها ما يكفي لتدرك أن الموقف التاريخي الصحيح اليوم بعد كل هذه الأحداث هو توجيه البندقية نحو الحوثي فقط. دون غيره. والاعتراف الضمني بحق الجنوبيين في أرضهم. وهذا الموقف المتقدم لا نراه للأسف في خطابات أحمد علي عبدالله صالح الذي يشدد على الوحدة القسرية في خطاباته السنوية هو يعلم أنها اليوم وحدة عبد الملك الحوثي وأبو علي الحاكم وليست وحدة علي عبدالله صالح. ولا أعرف حقيقة هل هو اختلاف سطحي في المواقف والرؤى بين أحمد وطارق، لكن الأخير استحق احترام الجنوبيين بغض النظر عن الماضي الذي لا أدعو لنسيانه بقدر ما أدعو للتعلم منه. لأن دورة الانتقام والثأر والعنف هذه يجب أن تنتهي، ويجب أن يكون الحوثيون آخر فصولها.
في النهاية، نقول إن التشفي ليس من شيم المسلم ولا العربي الأصيل. لقد اختار علي عبدالله صالح النهاية التي يريدها. كانت شجاعة لكنها تميزت بسوء التقدير بنفوذه وثقله اللذين لم يعودا كما يعرفهما. تماماً مثل جبال سنحان التي أجزم أنها تبخرت أمام أعين صالح في لحظاته الأخيرة وتنكرت له فلم يعرفها. لم يكن مقتله مجرد حادث عادي في سياق الحرب اليمنية، بل كان صدمة في الوعي الجمعي لشعب تربى وعاش أجيالًا وهو يسمع اسم هذا الرجل الذي أسهم بشكل رئيسي في تشكيل ماضي وحاضر هذا الشعب، وأبى إلا أن يظل عالقًا بشكل أو بآخر في خياله ومستقبله. كان انهيارًا عنيفًا لجانب من الذاكرة، وبالنسبة للبعض كان حدثًا غير قابل للتصديق. إلا بعد أن انتشرت صور جثمانه. في مشهد سجله التاريخ..