كان كاتب هذه السطور قد توقف عند مقالة سابقة للكاتب السعودي عبد الرحمن الراشد منذ نحو ست سنوات ونيف بعنوان "عبد الرحمن الراشد والنظر بعين واحدة" نشرت على حلقتين في أكثر من موقع إلكتروني (رابط المقالة في أول وثاني تعليق) وها أنذا أتوقف مجبراً مرةً أخرى مع هذا الكاتب الذي يصر على "تقزيم" مكانته الإعلامية والصحفية التي نحاول نحن متابعي مقالاته التحليلية أن نبحث له عنها، من خلال ما يمتلكه من القدرات اللغوية، والمهارة الاستعراضية في محاولة تفكيك الكثير من المشاهد السياسية المعقدة ومحاولة تبصير المتابعين بما في ثناياها من خفايا، قد لا تكون بمتناول الجميع.
بيد إن عبد الرحمن الراشد ما إن يقترب من الموضوع الجنوبي حتى يفقد رشده، ويذهب في تكرار المفردات والمقولات التي يتجشأها إعلام إسطنبول وصنعاء على السواء.
في مقالته الأخيرة المنشورة عبر صحيفة "الشرق الأوسط" والتي نقلها عنه موقع العربية نت ومواقع أخرى، بعنوان ""الانتقالي" فتح عشَّ الانفصاليين"
يتناول السيد الراشد ما شهده الأسبوع الأول من شهر ديسمبر الجاري في محافظتي حضرموت والمهرة من نجاح عسكري للقوات الجنوبية في دحر قوات المنطقة العسكرية الاولى التي ظلت تمثل الذراع الأطول للحوثيين على طول وعرض هذه المنطقة، ويمهد لمقالته باستعراض تأثير المملكة العربية السعودية الشقيقة على الحالة السياسية في اليمن ولم يفته الإيعاز إلى دعم المملكة للملكيين الذين قامت ضدهم الثورة اليمنية في سبتمبر 1962م وكيف تمت إقالة الرئيس عبد الله السلال بعد مصالحة السعودية مع مصر، ولست أدري هل إن السيد الراشد يريد خدمة المملكة الشقيقة بأقواله هذه أم إلحاق الضرر بها من حيث حاول الإشادة بها والثناء على سياساتها.
ليس هذا ما وددت تناوله هنا، لولا حشر الكاتب لهذا الموضوع في مقالته الموجهة للتحريض على المجلس الانتقالي الجنوبي ومشروعه الوطني، بيد إن ما استوقفني في حديثه عن المجلس الانتقالي والأحداث الأخيرة التي شهدتها محافظتا حضرموت والمهرة هو أن السيد الراشد، قد فقد رشده، وقدم نفسه في تفسيره لما جرى مبينا أحد أمرين: إما إنه يجهل حقائق الأمور على الساحة الجنوبية ولا يعلم بالضبط خلفيات وأسباب الصراع في هذه المنطقة، وإما إنه يخدم أجندة آيديولوجية هي نفسها ما يعبر عنها إعلام الهاربين من الحرب، ومحاربي المنابر والمنصات الرقمية من إسطنبول والدوحة وعمَّان وغيرها، فيقول ما يقولون ويكرر ما يتلفظون به رغم تقمصه دور الراشد الزاهد والمرشد المحايد.
بعد استعراضه لمظاهر اكتشاف اليمنيين بما فيهم الحوثيين لأهمية الإقرار بالدور السعودي في صناعة مخرجات السياسة في اليمن، يقول السيد الراشد "المجلسُ الانتقالي لديه مشروعٌ موازٍ، (أي موازٍ لمشروع الحوثيين) وهو إعادة إحياءِ دولةِ الجنوب المستقلة. يستطيع إنجاحُه بشرطين: القَبول اليمني له الذي يتطلَّبُ طرحاً سياسيّاً مُوائماً وجامعاً يعالج مخاوفَ بقيةِ اليمنيين، بما فيهم الجنوبيون. والثاني، التأييد السعودي".
لن أناقش التأثير السعودي على مجريات الحياة السياسية في الإقليم والمساهمة في محاربة المشاريع المعادية للأمة وهذا ما أبدته المملكة في بناء التحالف العربي لدعم الشرعية اليمنية والتصدي للمشروع الفارسي في اليمن، لكن كما قلت إن الرجل يصر على إبداء جهله بحقائق الجغرافيا والتاريخ، رغم ما يتمتع به من مكانة لدى الأشقاء في المملكة ورغم المساحة التي يتمتع بها لاستعراض مهاراته الكتابية واللغوية، فحينما يضع المشروع الجنوبي، والمتمحور في استعادة دولة الجنوب بعد فشل وحدة 22 مايو 1990م، وفشل وحدة الحرب والضم والإلحاق في 7/7/ 1994م ، أقول حينما يضع الرجل المشروع الجنوبي التحرري بموازاة المشروع الحوثي السلالي الإنقلابي الماضوي، فإنما يعبر عن جهله بأن الجنوب كان ذات يومٍ دولةً ذات سيادة لها حضورها الإقليمي في جميع المكونات والملتقيات والمنظمات الدولية والقارية والإقليمية، وإنها دخلت في وحدة طوعية توافقية مع شقيقتها الجمهورية العربية اليمنية، لكن الأخيرة (وبالأصح القايمين على الأخيرة) انقضوا على الشراكة الطوعية بحرب غزو واحتلال ونهب وسلب وتهميش وتغييب لكل ما يوحي بوجود الجنوب وشراكته، وإنه حتى بعد أن حاول (ناهبوا) الثورة الشبابية السلمية رشوة الجنوبيين وتعيين رئيس جمهورية ورئيس وزراء جنوبيين تكتلت كل مراكز القوى الشمالية للإطاحة بهما، وتخلى بقية أدعياء مناصرة الشرعية عن إطلاق رصاصة واحدة في وجه من انقلبوا على الرئيس الشرعي ورئيس حكومته (ذوي الأصول الجنوبية) الذين نجيا ووزراؤهما من الموت بإعجوبة يقال إن التدخل السعودي كان مساهماً فيها.
ويضيف السيد الراشد "ونتيجةَ تكرّر الأزماتِ، سيكتشف بقيةُ الرفاقِ في المجلس الانتقالي أنَّ قيادتَه ربما هي العقبةُ، وليست فكرة الانفصالِ نفسها، وهذا ما كانَ مع الرئيس عبد الله السَّلال في صنعاءَ، الذي اجتمع القبليون والجمهوريون على إبعاده، في أعقاب التَّصالح السّعودي المصري عام 1967".
إن مناقشة ما جرى مع الرئيس المشير السلال في صنعاء قد يبدو خارج السياق ولا معنى له ونحن نتحدث عن ثنائية الشمال والجنوب، والوحدة و"الانفصال" كما يمسميه البعض، مع تحفظي على مفردة "الانفصال"، أقول إن تكرار الأزمات التي يتحدث عنها الأخ الراشد هي ظاهرة حقيقية، لكن حصرها في المجلس الانتقالي وحده وتجاهل العوامل والمؤثرات الأخرى، وأهمها وجود قيادة نازحة فشلت في القيام بأهم وظائفها، واستمرار حكم الجنوب (المحافظات المحررة كما يسميها بعض إعلاميي السلطة) بأسلوب ومنهج سلطات 7/7/1994م، بل وشخوصها وتفكيرهم، وتحكم هذه المجاميع في الموارد ومصادر الثروة والمال العام وحتى الإعانات والهبات والقروض المقدمة أصلا لـ"المحافظات المحررة" ، واستمرار الحرب الحوثية على الجنوب، دوناً عن بقية مناطق التماس معها، إن تجاهل هذه العوامل والمؤثرات يكشف إما عن جهل يتعقيدات الواقع، أو عن هروب متعمد من البحث الرصين والمسؤول لأسباب "تكرار الأزمات" وتجيير كل هذا باتجاه المجلس الانتقالي الذي للأسف قيدته شراكته مع الشرعيين الهاربين، من العمل باستقلالية أكثر للتوجه نحو معالجة الأزمات والاختناقات وتخفيف عذابات ومعانات الجنوبيين، . . . المجلس الانتقالي ليس هو العقبة في حل الأزمات بل بقاؤه في الشراكة الخائبة هو السبب الرئيسي في كل الأزمات المتكررة، يا سيد الراشد.
ما فعلته قيادة المجلس الانتقالي والقوات الوطنية الجنوبية في محافظتي حضرموت والمهرة، أيها الصحفي الجهبذ، ليس عملية استعراضية إعلامية، ولا هو نبش لخلافات مع أي طرف جنوبي كما يتهيأ لكم، لكنه كان موجهاً ضد كتلة عسكرية غازية، دخلت المنطقة العسكرية الأولى يوم 7/7/1994م، ولم تتحلحل عنها، بل تحولت بعد الانقلاب الحوثي، إلى ممرِ آمن لتهريب الأسلحة الإيرانية إلى جماعة الحوثي في صنعاء، بما فيها صواريخ سكود التي قصفت مدناً ومنشآت اقتصادية وأحياءَ سكنية في المملكة الشقيقة وجارتها دولة الإمارات، وأعجب ما في حديثكم أنكم تعبرون عن انزعاجكم من هذه الخطوة برغم ما وفرته من الأمان الإضافي للمملكة الشقيقة وبقية دول الجوار، بما فيها الأشقاء في عمان والإمارات، أما إشارتكم إلى توسيع "مفهومَ الانفصال والاستقلالات" فهي لا تخفى على كل لبيب، لأنها ليست سوى مواصلة لما فشل فيه الإعلام المعادي للجنوب وقضيته العادلة، وهو الإعلام الذي يشيطن الحديث عن استعادة الدولة الجنوبية بحدودها التاريخية يوم 21 مايو 1990، لكن هذا لإعلام لا ينفك عن تحريض أبناء بعض السلطنات والإمارت الجنوبية لما قبل 1967م على المطالبة بعودة سلطناتهم في حالة من الانفصام السياسي المكشوف، التي تخفي وراءها نزعة انتقامية لا تخلو من الملامح الانتحارية لدى مرضى الشيزوفرينيا السياسية.
مهرجان النواح السياسي مما أقدمت عليه القوات الجنوبية في المنطقة العسكرية الأولى لا يمكن فهمه إلا على إنه يعبر عن وحدة موقف كل القوى النافذة ذات الأصول الشمالية: حوثيين، مع موتمريين مع إصلاحيين، وبقية اللفيف من المكونات المجهرية المنضوية تحت العباءتين (الشرعية) و(الحوثية) ونحن نتفهم أن يتضرر الحوثيون من إخراج جناحهم العسكري والاستخباراتي والتجاري في المنطقة العسكرية الأولى، لكن لا نستطيع أن نفهم نواح الأطراف الأخرى التي يفترض أن تشكر القوات الجنوبية، على ما أقدمت عليه من خطوة شجاعة في سد المنفذ الرئيسي لتزويد الحوثيين بالسلاح والوقود والمهربات المختلفة بما فيها المخدرات، التي هي جزء من أسلحة الأجنحة الإيرانية حيثما حلت، أما موقف السيد الراشد فلا يمكن فهمه إلآ من قبل الرجل وحده.
وأخيرا نذكر السيد الراشد بالحقائق التالية:
1. القوات الجنوبية التي تعتبرها مشروعاًَ موازيا للمشروع الحوثي، هي من استطاعت، بدعم ومساندة الأشقاء في التحالف العربي إلحاق الهزيمة المنكرة بالمشروع الإيراني الموجه ضد العرب والسعودية على رأسهم ، ولولا هذه القوات لكان الحوثيون اليوم على مشارف الحدود مع عمان، ومسيطرين على كامل الحدود مع المملكة الشقيقة، أما من أفشل مشروع التحالف العربي فليست قوات الانتقالي بل الشركاء الذين تدعوننا للإتمار بأوامرهم.
2. ومع تفهمي لدعوتك للمجلس الانتقالي الجنوبي، للعمل من خلال مؤسسات الشرعية، ومنها مجلس القيادة الرئاسي، ومع إنني لست متحدثا باسم المجلس الانتقالي، إلا إنني أستطيع التأكيد أن رهان المجلس الانتقالي على ما سيقدمه مجلس رشاد العليمي قد أذاق الجنوبيين من الويلات والمرارات ما لم يعرفوه حتى في أسوأ المراحل من تاريخهم، وذلك من خلال حرب الخدمات وسياسات التجويع وتغييب وتمييع دور المؤسسة الرسمية والاكتفاء باستقطاب الأتباع والأنصار.
3. وحينما تقول أن المجلس الانتقالي "أمر مليشياتاته بالهجوم على محافظة مساحتها 48 مرةً من مساحة محافظةِ الضالع" فأنت تكشف عن سطحية وفجاجةً وقلة لياقة لم نكن نتوقعها ممن هو في مقامك، فالضالع كجغرافيا وكمحافظة وكمواطنين ليست سوى وحدة إدارية واحدة من بين 8 وحدات شارك أبناؤها في تحرير وادي وصحراء حضرموت والمهرة من الذراع العسكري للحوثيين، ومحاولة دق إسفين بين أبناء الجنوب وضربهم ببعضهم البعض قد فشل فيها علي عبد الله صالح وكان لديه من المكر والدهاء والثعلبية أكثر مما لديك، ونصيحتي لمقامك الذي كنا نحترمة، أن لا تخوض في القضايا والتعقيدات الشائكة التي تجهل تفاصيلها وإذا كان لا بد من الخوض فيها فأرجو أن تَتعِب نفسك قليلا وتبحث في الخلفيات التاريخية والثقافية والسياسية لجميع تلك التعقيدات، والكف عن الغش من منابر ومنصات إسطنبول فهي تقدم مواداً مسمومةً تلحق الأذى بمن يتعاطاها.
وختاما أدعو الزملاء في قيادة المجلس الانتقالي إلى قراءة مقالة عبد الرحمن الراشد لا للاستفادة من محتواها، ولكن للتبصر بما تشمله من محاذير، وتنبيهات على الجنوبيين أخذها على محمل الجد.