آخر تحديث :الخميس - 11 ديسمبر 2025 - 05:04 م

كتابات واقلام


قراءة في خرائط "الاحتلال" و"الانقلاب" بين صنعاء وعدن

الخميس - 11 ديسمبر 2025 - الساعة 02:37 م

حافظ الشجيفي
بقلم: حافظ الشجيفي - ارشيف الكاتب


في اللحظات الفاصلة من عمر الشعوب، وحينما تتداخل خيوط التاريخ وتتشابك مصائر الأمم، يصبح لزاماً علينا أن نتوقف قليلاً لنلتقط الأنفاس، ونعيد قراءة المشهد بعيداً عن ضوضاء الشعارات وصخب البيانات السياسية الجاهزة. فما يجري في اليمن اليوم، وما جرى فيه بالأمس القريب والبعيد، ليس مجرد أحداث طارئة يمكن القفز عليها، بل هي حلقات متصلة في سلسلة طويلة من الصراع على السلطة، والهوية، والأرض.
لذلك دعونا نضع الحقائق على الطاولة بصراحة وتجرد، ونحن نستدعي مشهدين محوريين غيَّرا وجه المنطقة هما مشهد سقوط صنعاء في يد جماعة "أنصار الله" (الحوثيين) في سبتمبر 2014، ومشهد اجتياح الجنوب ودخول القوات الشمالية إلى عدن في يوليو 1994. فالمقارنة بين الحدثين ليست ترفاً فكرياً، بل هي ضرورة لفهم أزمة المفاهيم التي تعصف بالعقل السياسي اليمني اليوم.
اذ ان كثيرون في النخب السياسية والحزبية في الشمال يصرخون اليوم بملء حناجرهم بأن ما حدث في 2014 هو "احتلال" للعاصمة صنعاء، وأن الحوثي "قوة غاشمة" انقلبت على الشرعية. ولكن، إذا أردنا أن نكون أمناء مع التاريخ، ومع تعريفات العلوم السياسية، فإننا نجد أنفسنا أمام مفارقة صارخة تستدعي التوقف.
فحركة الحوثي، شئنا أم أبينا، هي نبتٌ شيطاني أو طبيعي -لا يهم الوصف الآن- خرج من رحم الأرض الشمالية، ومن صلب النسيج الاجتماعي والقبلي لتلك الجغرافيا. وحينما تحرك الحوثي من صعدة إلى عمران ثم إلى صنعاء، كان يتحرك داخل حدوده، وداخل "بلده". حيث لم يكن شريكاً في السلطة او انقلب على اتفاق، ولم يكن جزءاً من منظومة حكم الرئيس السابق علي عبد الله صالح ولا من تركيبة سلطة الرئيس عبد ربه منصور هادي، بل كان طرفاً متمرداً حارب الدولة وحاربته الدولة لسنوات. وحينما أسقط صنعاء، كان ذلك "انقلاباً" كلاسيكياً من قوى داخلية على سلطة قائمة، اي صراعاً داخليا بين أبناء البيت الواحد على من يمتلك مفاتيح الدار. قد يكون انقلاب سياسي، أو طائفي لكنه في العرف السياسي لا يسمى "احتلالاً" لأن المحتل لا يحتل أرضه، ولا يغزو بيته.
وعلى الضفة الأخرى من النهر، يقبع الجرح الغائر الذي يحاول البعض تناسيه، وهو ما حدث في صيف 1994.
حيث تختلف الصورة كلياً، وتتغير المعايير جذريا هنا. ففي عام 1990، قامت وحدة اندماجية بين دولتين ذات سيادة (الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) في كانت شراكة ندية بين نظامين. وما حدث في 1994 لم يكن صراعا داخليا، بل كان انقلابا من نظام صنعاء على "شريكه" الشرعي في الوحدة، وعلى الاتفاقيات الموثقة دوليا. حيث تحركت الجحافل العسكرية من الشمال لا لتغير نظام الحكم في الجنوب فحسب، بل لتجتاح أرضا ليست أرضها، وتخضع شعبا كان حتى الأمس القريب شعبا لدولة مستقلة.
وكان دخول القوات الشمالية إلى عدن وحضرموت والمهرة في 94 هو التعريف الحرفي والموضوعي لمصطلح "الاحتلال". الذي فرض السيطرة بالقوة العسكرية على جغرافيا مغايرة، وإلغى الشراكة بالمدفع والدبابة، وضم الأرض عنوة بغير رضا أهلها.مع إن شرعية الطرف الجنوبي في 94 كانت مستمدة من كونه دولة ذات كيان، بينما شرعية الحوثي في 2014 كانت شرعية أمر واقع فرضه السلاح في عقر داره.
وهنا تبرز "أم المفارقات" التي تدعو للرثاء والسخرية في آن واحد.
نرى اليوم المجلس الانتقالي الجنوبي، وهو الكيان المفوض من غالبية الشعب في الجنوب، يتحرك لتحرير ما تبقى من أراضي حضرموت والمهرة من بقايا تلك القوات التي تمركزت هناك منذ حرب 94. وهذه القوات لم تدخل تلك المناطق ببطاقات دعوة، بل دخلتها كقوات غازية منتصرة في حرب غير متكافئة. ومع ذلك، نجد الأحزاب والقوى السياسية اليمنية (الشمالية)، بكل أطيافها من اليمين إلى اليسار، تنتفض غضبا وتدين هذا التحرك الجنوبي، وتصفه بأنه عمل "غير وطني" و"تمزيق للوطن"!
فكيف يستقيم هذا المنطق الأعوج؟
وكيف لهذه القوى أن تعتبر استعادة الجنوبيين لأرضهم من قوات عسكرية شمالية (تتواجد في سيئون والمهرة منذ 30 عاماً) "خيانة"، بينما تعتبر سيطرة الحوثي (الشمالي) على صنعاء (الشمالية) "احتلالاً"؟! إن كان الحوثي ابن صنعاء وعمران وصعدة يُعد "محتلاً" في نظرهم وهو في عقر داره، فماذا يسمون تواجد ألوية عسكرية من ذمار وعمران وصنعاء في قلب المهرة وحضرموت؟ أليس هذا هو الاحتلال المكتمل الأركان والشروط؟
والمسألة لا تقف عند حدود التناقض في التسميات، بل تتجاوزها إلى ما هو أدهى وأمر.
فهذه القوى نفسها، التي تمارس فعل الاحتلال في الجنوب، وتتمسك ببقائها العسكري في الهضبة النفطية الجنوبية، تلتفت إلى المجلس الانتقالي الجنوبي وتطالبه –بكل برود أعصاب– أن يرسل أبناء الجنوب ليحرروا لها صنعاء من الحوثي!
لتضعنا أمام مشهد عبثي بامتياز.. يطلبون من الضحية أن تترك قضيتها، وتترك تحرير أرضها، لتذهب وتقاتل من أجل استعادة عاصمة الجلاد... يطلبون من الجنوبي أن يحرر صنعاء ليعيدها إلى حكم القوى التقليدية التي غزت الجنوب، بينما يستنكرون عليه أن يحرر بيته في عدن أو المكلا!
الحقيقة التي يجب أن تُقال، مهما كانت قاسية، هي أن الحوثي في صنعاء، ورغم كل التحفظات على مشروعه، يظل جزءاً من تلك التركيبة الاجتماعية والسياسية للشمال، ويحظى بقاعدة شعبية عريضة من قبائله ومناطقه، وصراعه هناك هو صراع على شكل الدولة ونظام الحكم. أما وجود القوات الشمالية في الجنوب، فهو وجود طارئ، دخيل، تأسس على نصل السيف وفوهة المدفع في 7 يوليو 1994، وسيظل في الذاكرة الجمعية للجنوبيين –وفي ميزان القانون الدولي لمن يقرأ– احتلالاً صريحاً لأرض دولة كانت شريكة فغُدر بها.
إن التاريخ لا يرحم المغالطين، والجغرافيا لا تعترف بالخرائط التي تُرسم بالأوهام. ومن يعتقد أن بإمكانه أن يسوق للعالم فكرة أن الحوثي "محتل" في بلده، وأن القوات الشمالية "حمامة سلام" في أرض الجنوب، فهو لا يخدع إلا نفسه.
الأمور بخواتيمها، والحقائق بوقائعها على الأرض.. وما يفعله الجنوب اليوم ليس سوى تصحيح لخطأ تاريخي فادح، واستعادة لحق سُلب في غفلة من الزمن وتحت غبار البارود.