آخر تحديث :الثلاثاء - 16 ديسمبر 2025 - 04:17 م

كتابات واقلام


البطيخ الصيفي.. "شهادة على الظلم ما بعد حرب 94م "

الثلاثاء - 16 ديسمبر 2025 - الساعة 02:16 م

أحمد محمود السلامي
بقلم: أحمد محمود السلامي - ارشيف الكاتب



في منتصف تسعينيات القرن الماضي ، خاصة بعد حرب 1994م، تم توقيفي عن العمل ، ثم نُقلت من إدارة الأخبار إلى إدارة البرامج بصفة «مُعِدّ برامج». وكنتُ أنا الوحيد الممنوع من دخول إدارة الأخبار بحجة التحريض وعرقلة العمل . كانت تهمة «انفصالي» كافية لتُقعِدك في البيت. مارسوا ضدي ، وضد الشرفاء، التعسفَ والظلمَ والقهر، وللأسف كانوا من زملائي الذين أصبحوا ملكيين أكثر من الملك!
نفّذتُ الأوامر وذهبتُ إلى مدير عام البرامج الأخ العزيز محسن يسلم ، الذي رحّب بي وكتب أمرَ مباشرةِ عملٍ إلى إدارة شؤون الموظفين، لكنّ الإدارة رفضت إصدار أمرٍ إداريٍّ بذلك، بحسب أوامر مدير التلفزيون الجديد، وأنه عليّ أولاً أن أعمل وأقدّم عملاً يشفع لي عند المدير الحاقد.
ما بين فترة النقل والشفاعة، كنتُ أحضر كل يوم وأتابع موضوعي من مكتب إلى مكتب، إلى أن كُلِّفتُ بعمل لقاء مع العقيد أحمد الكبسي، أركان المنطقة العسكرية الرابعة، في مقر وزارة الدفاع بالتواهي. أنجزتُ المهمة، وكتب لي مدير البرامج أمرَ مباشرةٍ جديد ، وبموجبه صدر أمر مباشرتي العمل من تاريخه.

وفي نهاية الشهر، وعند استلامي المرتب، فوجئتُ بأنهم خصموا 50 % منه. وعندما استفسرتُ في الشؤون الإدارية عن سبب الخصم ، قال لي الموظف المختص : «عندك غياب أسبوعين». توتّرتُ جداً، وشعرتُ بحرارةٍ تسري في جسمي، وضغطتُ على أسناني بقوة ، وهرعتُ إلى باب الغرفة وخرجتُ عن طوري تماماً لعدة ثوانٍ .. لم أفق إلا على صوت زميلي الموظف وهو يقول ويكرر: «صلِّ على رسول الله، لا تعطيهم الفرصة، اصحَ .. يستفزّوك علشان ترتكب خطأ، يوقّفوك عن العمل نهائياً، ويوقفوا راتبك، ويذلوك، ويلفّقوا لك تهم ممكن تدخّلك السجن ».
في البداية لم أنصَع لكلامه، ولم يؤثّر فيّ تودّده، لكنني هدأتُ وتراجعتُ عن الفعل الأحمق الذي كنتُ تلقائياً سأنفّذه. قال لي، وهو يُحلِف بالله، إنه عندما كان يوقّع أوراقاً وفواتير في مكتب المدير العام، سمعه يتحدث في الهاتف ويقول: «اصبر عليّ… هذا أحمد السلامي، إذا ما أودي ملفه الخدمة المدنية ، ما أنا (....) .
طبعاً انا صدّقتُ الموظف؛ فهو إنسانٌ طيب، يتقي الله فيما يعمل ويحب الخير للناس. جلستُ على الكرسي وشرح لي الموقف كله، ولما شعر أنني هدأتُ نصحني بالمغادرة، وقال: «بُكرة تعال وقدّم طلب تصفية الإجازات المتراكمة، وابعد عن الشر وغنِّ له ، وبعد الإجازة يحلّها الحلال. راقت لي الفكرة ، وغادرتُ ، وفي اليوم التالي أتيتُ وتقدّمتُ بطلب تصفية إجازاتي ، رفضَ طلبي بتوجيهاتٍ من المدير العام للتلفزيون، وهنا برز أمامي استفزازٌ جديد، لكنني ضحكتُ من التفاهات التي تجلس على الكراسي، وقلتُ دون أن أنطق: من الآن فصاعداً لن أُعطيكم الفرصة أبدًا ورجت الى البيت وفكرت طويلاً واهتديت الى حل .
في اليوم التالي أحضرتُ معي ملفًا يحتوي على ترخيصٍ رسميٍّ قديم من المهندس البلدي لترميم وإعادة بناء مرافق على سطح منزلنا في الشيخ عثمان، إضافةً إلى جدول كميات وعروض أسعار لمواد البناء. أخبرتُ مدير عام البرامج بأنني فعلًا بحاجةٍ ماسّةٍ للإجازة عرضت عليه الملف كدليل ، فاقتنع، لكنه وافق على منحي شهرًا واحدًا فقط من إجازاتي المتراكمة، شهامةً منه.
بعد عودتي من الاجازة وتيرة الانفاس قد هدأت قليلًا ، لكنني كنتُ حذرًا جدًا، وعرفتُ من هم الزملاء الأوفياء، ومن هم المنافقون والجبناء وناكروا الجميل .. وقد استفدتُ كثيرًا من ذلك الموقف. كررتُ تقديم طلبي بتصفية إجازاتي الباقية ، وهذه المرة وافقوا، وظنّوا أنها قليلة ، لكنها كانت ستة أشهر. حوّلتُ راتبي إلى البنك الأهلي في المنصورة ، وشعرتُ أنني انتصرت.
بعد ستة أشهر رجعتُ وباشرتُ العمل، وعدتُ إلى إدارة الأخبار، وهذه لها حكايةٌ أخرى سأكتبها عين تختمر الفكرة ، وانشرها في وقتٍ لاحق إن شاء الله.
أمّا سبب تذكّر هذا الموضوع فهو بسيطٌ وطريف، وقد استلهمتُ منه العنوان «البطيخ الصيفي».. فقد قرأتُ، ضمن ما نشرته صحيفةٌ إلكترونيةٌ عدنية قبل أيام، موضوعًا عن الأطعمة التي تساعد على النوم، وذكرت أن:

اللوز، والسبانخ، والأفوكادو، وسمك السلمن ، ولحم الدجاج والديك الرومي، والبيض، مع شرب شاي البابونج والحليب الدافئ . على الفور تذكّرتُ حديث ذلك الدكتور — أظن اسمه صالح — صاحب الصوت الجهوري ، الذي كان يقدّم الفقرة الصحية مع الدكتور أحمد الشيبة (الله يرحمه) في البرنامج الصباحي « الأسرة ». كنتُ آنذاك فوق سطح البيت، جالسًا في ظل البرندة، أشاهد العمّال وهم يشتغلون، وألبّي لهم طلباتهم ، وأحرص يوميًّا على فتح إذاعة عدن للاستماع والتحفيز . تزامن ذلك مع فترة الإجازة الطويلة التي عشتها .
أذكر أن الدكتور صالح كان يتحدّث في ذات صباح عن فوائد فيتامين (A) والأطعمة التي يتواجد فيها بشكلٍ مركّز، وقال: هي الجزر، والبيض، والحليب، والكبد، والستيك البقري، والبطيخ الصيفي . المستمع البسيط لا يعرف هذه الأطعمة مثل الستيك القري والديك الرومي شاي البابونج ، وإن عرفها فهي لا تدخل في قاموس اكلاتنا الشعبية ؛ إذ تصبح الرسالة الإعلامية غير مفهومة، ولا يستفيد منها الجمهور الواسع، لأنها نقلٌ حرفيٌّ دون مراعاة اختلاف الثقافات وخصوصية المجتمع .