آخر تحديث :الثلاثاء - 16 ديسمبر 2025 - 08:37 م

كتابات واقلام


حسم ملف الوافدين الشماليين.. ضرورة استراتيجية لبناء دولة الجنوب المستقلة

الثلاثاء - 16 ديسمبر 2025 - الساعة 06:50 م

حافظ الشجيفي
بقلم: حافظ الشجيفي - ارشيف الكاتب


في تقديري أن اللحظة التاريخية الفاصلة التي يقف أمامها الجنوب اليوم وهو يلملم أطرافه ويستجمع قواه استعداداً لإعلان استعادة دولته المستقلة ليست مجرد حدث احتفالي بانتصار سياسي أو عسكري فحسب بل هي امتحان عسير للقدرة على إدارة الدولة وفهم حقائق الجغرافيا والتاريخ والسكان ولعلني لا أبالغ إذا قلت إن أمام صانع القرار الجنوبي في المجلس الانتقالي معضلة وجودية لا تقل ضراوة عن المعارك التي خاضها في الميادين وتتمثل هذه المعضلة في ذلك الملف الشائك والمثقل بالتعقيدات وهو ملف التواجد البشري الكثيف للمواطنين اليمنيين القادمين من الشمال الذين باتوا يشكلون واقعا ديموغرافيا ضاغطا في عدن وعموم محافظات الجنوب وهي ظاهرة لم تبدأ اليوم ولا الأمس بل هي تراكمات بدأت منذ لحظة إعلان الوحدة وتجذرت عقب حرب صيف أربعة وتسعين ثم أخذت منحى دراماتيكي متصاعد خلال السنوات العشر الأخيرة حتى وصلنا إلى هذه النقطة الحرجة التي تشير فيها التقديرات والمشاهدات اليومية إلى أن أعداد هؤلاء الوافدين في الحواضر الجنوبية الرئيسية قد تجاوزت أو كادت تتجاوز التعداد السكاني لأهل الأرض الأصليين وهو أمر لا يمكن النظر إليه ببراءة أو التعامل معه بسطحية إذ إننا نتحدث هنا عن تغيير في بنية المجتمع وعن ضغط اقتصادي هائل يلتهم الموارد المحدودة وعن خطر يتهدد الهوية الجنوبية في الصميم مما يوجب وضع المبضع على الجرح وحسم هذا الملف قبل أن تدق ساعة الصفر لإعلان الاستقلال.
والحقيقة التي يجب أن تقال بصراحة ودون مواربة بعيدا عن العنصرية ونحن نستشرف ملامح الدولة القادمة هي أن هذا التدفق البشري نحو الجنوب سواء اتخذ شكل موظفين محسوبين على جهاز حكومة الشرعية أو جاء تحت غطاء العمالة وأصحاب الحرف والمحلات التجارية أو تدثر بعباءة النزوح الإنساني أو كان انتقالا منظما بهدف هندسة تغيير ديموغرافي بعيد المدى إنما يشكل في مجمله قنبلة موقوتة في خاصرة المشروع الجنوبي فالدولة لا تبنى على أرضية رخوة ولا يمكن لسيادة أن تكتمل وجزء كبير من النسيج السكاني يدين بالولاء لغير مشروع الدولة الوطنية الجنوبية أو يشكل عبئا يستنزف مقدراتها وخدماتها المتهالكة أصلا ومن هنا دعونا نضع النقاط على الحروف ونؤكد أن المطالبة بتنظيم هذا الملف وضبطه ليست انزلاقا نحو العنصرية ولا تعبيرا عن كراهية فالسياسة لا تعرف العواطف بقدر ما تعرف المصالح والسيادة وحق الشعوب في حماية أمنها القومي فكل دول العالم دون استثناء تضع حدودا وقوانين صارمة لمن يدخل أراضيها ويقيم فيها فكيف بدولة تسعى لاستعادة وجودها وهويتها ولذلك فإن المنطق السياسي السليم والعقلانية التي تتطلبها مرحلة بناء الدولة تقتضي أن يغادر المجلس الانتقالي والجهات المعنية مربع التشخيص إلى مربع المعالجة الجذرية واضعين نصب أعينهم أن بقاء الوضع على ما هو عليه هو وصفة أكيدة للفشل وأن الحل يجب أن يكون بحجم المشكلة حازما في سيادته وإنسانيا في إجراءاته وقانونيا في مرجعياته.
وفي سياق البحث عن مخارج آمنة وناجعة لهذه الأزمة المركبة يبرز أمامنا مسار لا بديل عنه وهو أن تتولى لجان متخصصة مشكلة من كفاءات قانونية وأمنية واجتماعية جنبا الى جنب مع اللجان المجتمعية صياغة الحلول وفق نهج يوازن بدقة متناهية بين الأهداف السياسية العليا المتمثلة في تحصين الدولة الجنوبية وبين الاعتبارات الإنسانية والقانونية التي تفرضها المواثيق الدولية ولعل الخطوة الأولى في هذا المسار الطويل والمعقد تبدأ بضرورة إنشاء سجل سكاني شامل ودقيق فالمعلومة هي الركن الركين في أي تخطيط استراتيجي ومن غير المقبول أن تدار الدولة دون إحصاء دقيق يفرز المتواجدين على أرضها ويصنفهم تصنيفا صارما وفق معايير واضحة تشمل تاريخ الدخول والسبب الحقيقي للإقامة والوضع القانوني الراهن ومكان الميلاد الأصلي فهذا الفرز المعلوماتي هو الذي سيكشف الغطاء عن حجم الكارثة الديموغرافية وهو الذي سيمهد الطريق لاتخاذ القرارات السيادية اللاحقة بناء على أرقام وحقائق لا تقبل الشك أو التأويل.
واستكمالاً لهذا البنيان التنظيمي الضروري يتوجب الانتقال فورا إلى وضع سياسة جنسية وإقامة شديدة الوضوح والصرامة تحدد بمنتهى الدقة من هو الجنوبي الذي يحق له حمل جنسية الدولة الجنوبية المستقلة وذلك بالاستناد إلى المرجعيات التاريخية الراسخة لما قبل عام ألف وتسعمائة وتسعين لتكون هذه هي المسطرة التي يقاس عليها ومن ثم يتم تحديد وضع الآخرين بصفتهم وافدين أجانب توضع لهم معايير محددة لمنحهم حق الإقامة الدائمة أو المؤقتة وفقا لحاجة الدولة ومصالحها الاقتصادية والأمنية وليس وفقا لسياسة الأمر الواقع المفروضة حاليا وهذا الإجراء ليس بدعة في عالم السياسة بل هو حق أصيل تمارسه كل الدول لحماية هويتها ومواردها من الذوبان والاستنزاف وعلينا أن ندرك أن التساهل في ملف المواطنة في هذه المرحلة التأسيسية قد يفتح أبوابا للشر لا يمكن إغلاقها في المستقبل فالدولة ليست فندقا يستقبل الجميع بلا ضوابط بل هي بيت له أهل وله حرمة.
ولكي تكتمل دائرة المعالجة لا بد من تفعيل دور اللجان القانونية المتخصصة الى جانب اللجان المجتمعية لتقوم بدراسة ملفات الفئات المختلفة كلٌ على حدة فملف الموظفين التابعين لحكومة الشرعية والقادمين من الشمال يحتاج إلى جراحة إدارية تنهي الازدواجية وتوقف استنزاف الخزينة العامة وملف أصحاب الاستثمارات والمصالح التجارية يحتاج إلى تقنين يضمن خضوعهم لقوانين الاستثمار والعمل والضرائب في الدولة الجنوبية كأي مستثمر أجنبي أما ملف النازحين وهو الأكثر حساسية فيجب التعامل معه بنهج إنساني يتسق مع المعايير الدولية ولكنه لا يغفل البعد السيادي والأمني وذلك من خلال تحديد آليات طوعية وعاجلة لعودتهم إلى مناطقهم التي تحررت أو دمجهم في إطار قانوني صارم ومحدد النطاق الجغرافي والزمني بحيث لا يتحول النزوح المؤقت إلى استيطان دائم يغير وجه المدن الجنوبية ويخنق سكانها فاستقلال الجنوب لن يكون ناجزا إلا إذا استطاعت الدولة أن تبسط سيادتها ليس فقط على الأرض بل على حركة السكان والمجتمع وأن تحسم هذا الملف الشائك قبل أن يرتفع علم الدولة فالتحدي كبير والوقت ليس في صالح المترددين.