لا يزال الجنوب اليمني يرزح تحت عبث منظومة تُسمّى زورًا "الشرعية"، بينما تتكشف الحقائق يومًا بعد آخر عن تواطؤ هذه السلطة مع مراكز النفوذ في الشمال، وعجزها المتعمد عن إدارة أبسط مقومات الدولة. بين حكومة معترف بها دوليًا لا تمثل إلا مصالح قلة، وواقع شعبي ينهار اقتصاديًا وإنسانيًا، يتجلى أمامنا مشهد مأساوي لشعب تُنهب ثرواته، ويُدار بالتحايل السياسي، والتجويع الممنهج.
من عدن إلى حضرموت، ومن لحج إلى أبين، يعيش الجنوبيون تحت نظام مزدوج من الإهمال والاستغلال، تديره أدوات ما يُعرف بالشرعية اليمنية، تلك التي تقتات على الدعم الخارجي، خصوصًا من السعودية والإمارات، دون أن تبني اقتصادًا أو تؤسس لإدارة حقيقية على الأرض.
بنك عدن المركزي، الذي من المفترض أن يكون عصب الاقتصاد الجنوبي، تحوّل إلى خزينة تُموّل منها رواتب مئات الآلاف من الموظفين في الشمال، لا سيما في مأرب وتعز، دون أي مقابل تنموي للجنوب أو رقابة حقيقية. في المقابل، تذهب عشرات الملايين من الدولارات إلى صنعاء يوميًا، تحت لافتة عوائد شركات الاتصالات، والسلع التجارية التي يصدرها تجار الشمال إلى الجنوب. إنها سلطة عميقة، بُنيت على يد نظام علي عبدالله صالح، ولا تزال تمارس سطوتها إلى اليوم، وإن تغيرت الوجوه.
كل ذلك يحدث بينما يترك ملف المرتبات والخدمات الأساسية في الجنوب رهينة للمكرمات الموسمية. وإذا ما اشتدت الضغوط الشعبية، خرج الرعاة الإقليميون بحلول إسعافية مؤقتة: شحنة نفط لتشغيل الكهرباء، أو راتب شهر، سرعان ما يتلاشى أثره أمام الغلاء والانهيار المستمر للعملة.
أما الملف الأمني، فقد أُلقي على عاتق المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي يواجه الشارع الغاضب دون أدوات سيادية حقيقية. فالمجلس محاصر بين مسؤولية أمنية داخلية، وسلطة حكومة العليمي التي لا تملك على الأرض شيئًا سوى ختم "الشرعية الدولية".
المؤامرة أعمق مما نتصور. فالمجلس الرئاسي ليس إلا غطاءً سياسيًا لتمرير المرحلة، وشرعنة الاحتلال الناعم لمقدرات الجنوب. إنه مجلس وُلد من رحم التوازنات الدولية، لا من رحم الشعب، ومهمته الوحيدة هي الإبقاء على الوضع على ما هو عليه: الجنوب مقيّد، والشمال في يد الحوثي، والموارد تُنهب في وضح النهار.
حتى منح الحج التي تُخصص لأسر الشهداء في عدن ولحج وأبين، والضالع، جرى السطو عليها، لتذهب لأسر نافذين في مأرب وتعز. وكذلك المكرمات الملكية السعودية، التي تُصرف كل عام، لم تُستثنَ من هذا النهب المنظّم، حيث تُحوّل إلى جيش العرادة والصغير وعلي محسن في مأرب وتعز وادي حضرموت، فيما يُترك جيش الجنوب بلا دعم ولا رواتب.
ما يسمى "الشرعية" لم تعد إلا واجهة تُدار من الخارج، وتُستخدم لضمان استمرار تقاسم النفوذ والثروات، على حساب الجنوب وأهله. إنها سلطة فقدت كل مقومات الشرعية الشعبية، وتحولت إلى أداة استنزاف ممنهجة. واليوم، لم يعد أمام الشعب الجنوبي إلا أن يُدرك أن المعركة لم تكن يومًا مع الحوثي فقط، بل مع منظومة عبثية متكاملة، تُجدد نفسها بشعارات خادعة، بينما تخطط لإبقاء الجنوب مجرد هامش في معادلة السلطة والثروة