آخر تحديث :الثلاثاء - 16 ديسمبر 2025 - 05:18 م

قضايا

محامٍ عام أول في النيابة العامة :
القتل خارج نطاق القضاء في شبوة ..جريمة مركّبة واعتداء جسيم على سيادة القانون

الثلاثاء - 16 ديسمبر 2025 - 02:30 م بتوقيت عدن

 القتل خارج نطاق القضاء في شبوة ..جريمة مركّبة واعتداء جسيم على سيادة القانون

القاضي أنيس صالح جمعان

يُعدّ القتل خارج نطاق القضاء، أو ما يُعرف بالإعدام خارج إطار القانون، من أخطر الجرائم وأبشع الانتهاكات التي تمس جوهر العدالة وكرامة الإنسان، لما ينطوي عليه من إزهاق للروح البشرية دون محاكمة عادلة أو اتباع الإجراءات القانونية المشروعة الواجبة التي كفلتها الشرائع السماوية، والدساتير الوطنية، والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، في مخالفة صريحة لأحكام القانون الجنائي، ومبادئ حقوق الإنسان، وقواعد العدالة الجنائية المستقرة.


وهذا الفعل مُحرّم دولياً، وتُجرّمه القوانين الجنائية في مختلف دول العالم، ويُعد انتهاكاً جسيماً للحق في الحياة، الذي يُعد من الحقوق غير القابلة للانتقاص أو التعطيل تحت أي ظرف، بما في ذلك حالات النزاع أو الاضطراب الأمني. كما يوجب القانون ملاحقة جميع المتورطين فيه، سواء كانوا فاعلين أصليين أو شركاء أو محرّضين، وتقديمهم إلى محاكمة عادلة، ضماناً لتحقيق العدالة وعدم الإفلات من العقاب.


مخالفة للقانون والشريعة والعرف القبلي


إنّ ما حدث في محافظة شبوة من قتل خارج نطاق القضاء، وما صاحبه من إسراف في القتل من قبل المنفذين، يُعد فعلاً إجرامياً يتنافى صراحةً مع أحكام القانون الجنائي، ويتعارض كذلك مع أحكام الشريعة الإسلامية الغرّاء التي شددت على صيانة النفس البشرية، ومنعت الاعتداء عليها إلا بحق، وبعد ثبوت الجريمة عبر قضاء مختص وإجراءات عادلة.


كما أَنَّ هذا الفعل يُخالف أيضاً النظام القبلي العرفي في اليمن، الذي وإن كان قائماً على حماية الحقوق وردّ الاعتداء، إلا أنه لم يُجز يوماً تنفيذ القتل دون بيّنة قاطعة، أو التمثيل بالجثث، أو التعدي الجماعي الذي يتجاوز حدود القصاص المشروع.


وحشية الفعل


لقد ارتُكبت الجريمة بدرجة بالغة من الوحشية، حيث أقدم عدد من المنفذين على إطلاق عشرات الطلقات النارية بصورة عشوائية ومكثفة على جسد المجني عليه، في مشهد يُجسّد القتل العمد المشدد المقترن بوحشية الفعل وتعدد الجناة، وهو ما يُعد ظرفاً مُغلِّظاً للعقوبة في التشريعات الجنائية، ويكشف عن نية إجرامية تتجاوز حدود القصاص أو ردّ الاعتداء.


غياب اليقين والدليل: إدانة إضافية للفعل


وتتعاظم خطورة الواقعة في غياب الدليل الجنائي وانعدام اليقين القانوني، إذ يظهر في المقطع المتداول قيام أحد أفراد المجموعة بمطالبة المجني عليه بالاعتراف بارتكابه جريمة القتل، بينما يرد الأخير مؤكداً أنه مظلوم، وأَنَّ هناك شخصاً آخر هو من ارتكب الجريمة. وهذا المشهد وحده يكفي لإثبات أَنَّ التهمة لم تكن ثابتة، وأَنَّ الفعل لم يقم على بيّنة أو دليل قاطع، بل على الظن والاشتباه والانتقام، لا على الحق والعدل.


ومن المبادئ القانونية المستقرة أَنَّ الاعتراف لا يُنتزع بالقوة أو تحت التهديد، وأَنَّ الإدانة الجنائية لا تُبنى إلا على الجزم واليقين، لا على الشبهات، وأَنَّ الشك يُفسَّر دائماً لصالح المتهم. وعليه، فإن ما وقع لا يُعد قصاصاً، ولا يمت بصلة للعدالة، بل يُشكّل عدواناً صريحاً على الحق في الحياة، وانتهاكاً جسيماً لسيادة القانون.


الإسراف في القتل: جريمة مستقلة مخافة للشريعة الإسلامية والعرف


كما أَنَّ هذا الفعل الإجرامي يتنافى مع أحكام الشريعة الإسلامية الغرّاء التي شددت على صيانة النفس البشرية، ونهت عن الإسراف في القتل، قال تعالى:

(فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا).[الإسراء: 33]، أي لا يتجاوز الولي حدّ القصاص المشروع، فلا يقتل غير القاتل، ولا يُمثّل به، ولا يتعدى حدود العدل، لأن الحق لا يُستوفى بالباطل، ولا تُقام العدالة بالجريمة.


كما يتعارض هذا السلوك مع الأعراف القبلية اليمنية الأصيلة، التي لم تُجز يوماً القتل دون ثبوت، ولا التنفيذ الجماعي الوحشي، ولا تحويل القبيلة إلى أداة للانتقام خارج إطار الحق.


الواقعة مركّبة مكتملة الأركان قانوناً وشرعاً


إنّ ما رافق الواقعة من إسراف مفرط في إطلاق الرصاص، وتعدد الجناة، والتنكيـل بالمجني عليه، يُعد جريمة قائمة بذاتها، تُوصف قانوناً بالقتل العمد المشدد المقترن بوحشية الفعل وتعدد الجناة، وهو ظرف مُغلّظ للعقوبة في التشريعات. يُجسّد نموذجاً صارخاً لهذه الجريمة المركّبة، إذ لم يقتصر الأمر على مجرد القتل، بل اقترن بحرمان المجني عليه من حقه في المحاكمة، وانتحال صفة سلطة العدالة، واستعمال القوة دون سند قانوني، إلى جانب الإسراف الفاحش في القتل، بما يجعل الواقعة جريمة مركّبة مكتملة الأركان قانوناً وشرعاً.


مسؤولية الدولة وواجبها الدستوري في انفاذ القانون


إنّ الدولة، ممثلة بأجهزتها الأمنية والقضائية، تتحمل مسؤولية قانونية ودستورية مباشرة في القبض على جميع المتورطين في هذه الجريمة، فاعلين وشركاء ومحرّضين، وإجراء تحقيق مستقل وشفاف، وتقديمهم إلى العدالة لمحاكمة عادلة تُطبّق فيها أحكام القانون دون مجاملة أو تهاون.


فالتغاضي عن مثل هذه الجرائم أو تبريرها يُكرّس منطق الفوضى والعدالة الخاصة، ويُقوّض هيبة الدولة، ويُغذّي دوائر الثأر والعنف، بينما إنفاذ القانون وحده هو الكفيل بحماية الأرواح، وترسيخ الأمن، وتحقيق العدالة.


نحو وعي قانوني قبلي جديد


إنّ واقعة القتل القبلي في محافظة شبوة ينبغي إنّ تُشكّل منعطفاً حاسماً ووعياً قانونياً جديداً لدى القبائل في اليمن، يُعيد تصويب البوصلة نحو أَنَّ الملاذ الصحيح، والمآل الآمن، والطريق الشرعي والقانوني السليم هو اللجوء إلى مؤسسات الدولة القضائية، لا الانجرار وراء منطق الثأر، ولا ممارسة ما يُسمّى بالعدالة الفردية أو الجماعية خارج إطار القانون.


فالقصاص الحق لا يكون بتسليم الأبناء للموت، ولا بتوسيع دوائر الدم، ولا بإشعال نزاعات لا تنتهي، بل يكون عبر القضاء المختص، الذي وحده يملك سلطة الفصل، ويضمن الحقوق، ويُحقق العدالة، ويُجنّب المجتمع مزيداً من الفوضى والانقسام، ويحفظ الأرواح من عبث الانتقام والانفعال.


إنّ سيادة القانون لا تنتقص من مكانة القبيلة، بل تحميها، وتصون كرامتها، وتمنع استغلالها في أفعال إجرامية تُحمّلها أوزاراً لا تمت إلى قيمها الأصيلة بصلة.


الخلاصة


إنّ القتل خارج نطاق القضاء جريمة لا مبرر لها، لا قانوناً، ولا شرعاً، ولا عرفاً، ولا يمكن تبريرها تحت أي ذريعة أو ظرف. ومواجهتها لا تكون بالصمت، ولا بالتبرير، ولا بالتواطؤ، بل بـإعلاء صوت القانون، وترسيخ دولة العدالة، وإنفاذ مبدأ المحاسبة.


فالحق في الحياة هو أسمى الحقوق وأساسها جميعاً، وحمايته مسؤولية الدولة والمجتمع معاً، ولا تتحقق هذه الحماية إلا بالاحتكام للقانون، واحترام القضاء، ورفض كل أشكال العنف والقتل خارج إطار العدالة.


الخاتمة


إنّ ما جرى في شبوة ليس حادثة عابرة، بل اختبار حقيقي لمدى التزام الدولة بسيادة القانون وحماية الحق في الحياة. والقصاص الحق لا يكون بإطلاق الرصاص، ولا بانتزاع الاعتراف بالقوة، بل باللجوء إلى القضاء، والاحتكام إلى القانون، صوناً للعدالة، وحفظاً للسلم الاجتماعي.


واللَّه من وراء القصد.


القاضي أنيس صالح جمعان - عضو نيابة النقض والإقرار في المحكمة العليا - محامٍ عام أول في النيابة العامة

-----------------------

▪️تم النشر في مدونة القاضي أنيس جمعان للدراسات والأبحاث القانونية في facebook بتاريخ 16 ديسمبر 2025م