في خضم التحولات المتسارعة التي تشهدها الساحة اليمنية، تبرز قضية الجنوب بوصفها معادلة مختلفة لا يمكن إخضاعها لمنطق الصفقات المؤقتة أو التسويات العابرة. فإرادة شعب الجنوب، التي تشكلت عبر عقود من التضحيات والنضال، باتت اليوم حقيقة سياسية قائمة بذاتها، تسبق في وزنها وتأثيرها كل الحسابات الإقليمية والدولية التي تحاول رسم ملامح الحل من فوق الطاولة، بعيدًا عن نبض الشارع.
لقد أثبتت التجربة أن أي تسوية سياسية لا تنطلق من الاعتراف الصريح بحقوق شعب الجنوب، ولا تضع قضيته في صدارة الأولويات، محكوم عليها بالفشل مهما حظيت من دعم أو رعاية. فالقضية الجنوبية لم تعد مجرد ملف مؤجل أو ورقة ضغط، بل أصبحت عنوانًا لإرادة شعبية واسعة عبّرت عن نفسها بوضوح في مختلف الميادين السياسية والجماهيرية.
إن ما يميز المشهد الجنوبي اليوم هو حالة الوعي الجمعي التي تشكلت بعد سنوات من الصراع والمعاناة. هذا الوعي لم يعد يقبل الحلول الرمادية، ولا يراهن على وعود فضفاضة أثبت الواقع عدم صدقيتها. فالجنوبيون، وهم يراقبون مشهد التسويات المتكررة، يدركون أن تجاهل إرادتهم يعني إعادة إنتاج الأزمة بأشكال جديدة، لا حلها من جذورها.
وعلى الرغم من تعقيد المشهد السياسي وتشابك المصالح، إلا أن إرادة شعب الجنوب أثبتت قدرتها على فرض نفسها كعامل لا يمكن تجاوزه. فالقوة الحقيقية لأي مشروع سياسي لا تكمن فقط في الدعم الخارجي أو التوافقات النخبوية، بل في مدى اتصاله بالناس وتعبيره عن تطلعاتهم المشروعة. ومن هنا، فإن أي محاولة لتمرير تسوية تتعارض مع هذه الإرادة، ستصطدم بجدار الرفض الشعبي عاجلًا أم آجلًا.
كما أن التجارب السابقة علمت الجنوبيين أن التسويات التي لا تراعي ميزان الواقع على الأرض، ولا تعترف بالتغيرات السياسية والعسكرية والاجتماعية، تبقى حبرًا على ورق. فالجنوب اليوم ليس كما كان في السابق، بل يمتلك أدواته السياسية، وحضوره الفاعل، وقدرته على الدفاع عن خياراته ضمن معادلة وطنية وإقليمية معقدة.
إن الرهان الحقيقي في هذه المرحلة يجب أن يكون على احترام إرادة الشعوب لا على الالتفاف عليها. فاستقرار المنطقة لن يتحقق عبر حلول مفروضة، بل من خلال مسارات سياسية عادلة تعترف بالحقوق وتستجيب للتطلعات. وإرادة شعب الجنوب، بما تحمله من وضوح وإصرار، تمثل اليوم حجر الزاوية لأي سلام مستدام.
وفي المحصلة، قد تتغير حسابات السياسة وتتبدل التحالفات، لكن إرادة الشعوب تبقى العامل الثابت الذي لا يمكن القفز عليه. وشعب الجنوب، الذي صبر طويلًا وقدم الكثير، يؤكد اليوم أن مستقبله لن يُرسم في الغرف المغلقة، بل بإرادته الحرة التي سبقت، وستظل تسبق، كل حسابات التسويات السياسية.