في إحاطةٍ سياسيةٍ دقيقةٍ، لم تكتفِ بالتقارير الجاهزة، بل نزلت إلى عمق واقع الأزمة في اليمن المعقّد شمالًا وجنوبًا، حيث تحدث الأمين العام للأمم المتحدة، (أنطونيو غوتيريش)، بلغةٍ تحمل بين سطورها إدراكًا متجدّدًا لحقيقةٍ قضية شعب جنوبي عربي طالما تم تهميشه أو التعامل مع شعبه وأرضه وثرواته بنوع من النهب والإقصاء والتسريح والقتل والاغتيال ونهب الأراضي العامة والخاصة في ظل وحدة اندماجية فشلت في مرحلتها الانتقالية بسبب حرب شنتها قوى الشمال على الجنوب.
ومن هنا فقد جاءت تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة، التي قد تبدو للبعض ضمن الإطار الدبلوماسي المعتاد، حاملةً في طياتها مقاربةً جذريةً تلمس لبَّ أزمة ما أفضت الحرب الحالية، مؤكِّداً أن أي تسوية مستدامة لا تلبي تطلعات شعبية لليمن لن ولم يكتب لها البقاء والاستمرار ، مشترطًا هذه المرة نجاحها ببداية جادة بالاعتراف الواضح بالحل العادل لقضية شعب الجنوب.
ومن هنا، لا يصدر الأمين العام للأمم المتحدة حديثه من فراغٍ نظري، بل يستند، كما أوضح، إلى معطيات الواقع والقوى الفاعلة على الأرض، مُستحضرًا الإنجازات الميدانية في مجالات الأمن والاستقرار ومكافحة الإرهاب.
وهو بذلك يربط، ضمنًا وبقوة، بين شرعية التمثيل والقدرة على صنع السلام وبين شرعية الفاعلية الميدانية والقادرة على صناعة الواقع وتأمينه وحمايته، وهذا الربط يحوِّل الخطاب من عموميات التسوية المستدامة والسياسية إلى خصوصيات التوازنات الفعلية على الأرض؛ فهو لا يتحدث عن أطرافٍ في الفراغ وشرعية الموميات المحنطة في فنادق الرياض، بل عن كياناتٍ تملك الجغرافيا وتملك القدرة على إدارتها وحمايتها، وتمتلك تفويضًا شعبيًا يعبر عن تطلعات شعبية جماهيره الغفيرة.
التسوية المستدامة نجاحها مشروط بإعتراف حق الجنوب بتقرير مصيره:
يضع غوتيريش المجتمعين الدولي والإقليمي أمام مرآة الحقيقة قضية شعب الجنوب مشيرًا إلى عدالتها من حيث قانونيتها وإطار حقيقتها السياسية ويصفها بأنها ليست مجرد مظلومية حقوقية كما يصفها قوى الشمال اليمني يمكن تعويضها، بل هي قضية شعبٍ كانت ذات كيانٌ سياسيٌّ معترفٌ به دوليًا وإقليميًا، تعرّضت لاحتلالٍين في عامي 1990م و 2015م. ومن ثم، فإن أي حديث عن تسوية مستدامة شاملة يمكن الحديث بدايتها من من صنعاء أو تنتهي عند مشاكلها، وتتجاوز قضية شعب الجنوب الجوهرية، هو حديثٌ عن حلٍّ هشٍّ قابلٍ للانهيار ولا يمكن أن يحل المشكلة مطلقًا، بل إن غوتيريش يحذِّر من العواقب ويقول: إذا تجاهلت قضية شعب الجنوب سوف تفتح الباب على مصراعيه لمزيد من التصعيد. ويدعو الأمين العام المجتمعين الدولي والإقليمي أن يعيد النظر في تركيب المعادلة وجذور المشكلة الحرب وأسبابها بصورة موضوعية وشاملة، لأن قضية شعب الجنوب في مساعي الأمم المتحدة ليست عائقًا للسلام، بل هي المدخل الحقيقي للحل العادل، ومفتاح الحل، وأي مسارٍ يتجاوز حلها وإعطائه الأولوية يعيد تدوير الصراع من جديد.
ومن هنا تصبح هذه القراءة التحليلية متوافقة مع المسار النضالي الذي اختطه شعب الجنوب، كما تجسّد في السنوات الأخيرة في صيغة مؤسسية جامعة تمثلت في المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي يمثل تلاحمًا بين الإرادة الشعبية السلمية والمقاومة المسلحة والمكونات النضالية تحت مظلة مشروع سياسي واضح ويقوده رئيس مفوض بشعبية جماهيرية تمثل الغالبية الكبرى من المجتمع الجنوبي بمختلف أطيافه والسياسية والاجتماعية والثقافية والمرأة والشباب. وأي تسوية مستدامة تُفرض من أعلى وتتجاهل هذا الكيان الفاعل وصاحب الأرض والجمهور، لا تُبنى على العدالة، بل على تغييب الحقوق المصيرية، مما يضمن فشلها واستمرار الاحتقان.
تقرير المصير: من النضالية إلى التمكين :
يتجاوز التحليل المستند إلى تصريحات غوتيريش فكرة المظلومية إلى فكرة الضرورة الجيوسياسية؛ فالشعب في الجنوب على وفق هذا المنطق، لم يعد يطلب اعترافًا بحقه كحقوق يصورها المحتل اليمني فحسب، بل أصبح يطالب بعودة دولته المستقلة وهويته الجنوبية كاملة السيادة كما كانت قبل الوحدة التي انهارت في مرحلتها الانتقالية بفعل الحروب المتتالية، ويطالب هذا الحق التحرري اليوم بإجماع شعبي وجماهيري من المجتمعين الدولي والإقليمي كي تنال الجنوب كيانها السياسي والقانوني، لتكون شريكًا سياسيًّا فاعلًا لا غنى عنه في أي استقرارٍ إقليميٍ مستقبلي في المنطقة. أما الحديث عن التسوية المستدامة التي تبني على تحاول على تجاهل حق شعب الجنوب وقضيته العادلة فهذا تأجيل يعقد السلام ويجعل الأزمة قائمة يصبح معها الحلّ غير ممكن وصعب تحقيقه؛ فالجنوب، بموقعه الاستراتيجي وبقواته الفاعلة على الأرض، أصبح يملك القدرة على حماية المصالح الدولية والإقليمية والمكتسبات السيادية في مكافحة الإرهاب في هذه الرقعة الحيوية من العالم، بحيث يصبح تجاهل قضيته العادلة والاعتراف بشرعيته من كونها مفتاح الحل فهذا يعني أن الحديث عن بناء سلامٍ هش يشبه بناء واقع على جمرٍ تحت الرماد.
ولذلك، يشير الخطاب الضمني في إحاطة الأمين العام إلى تمييز حاسم بين الأطراف: بين من يملك أرضًا وجمهورًا ويعبر عن تطلعات شعبية حقيقية لجمهوره وشعبه، وبين من أصبح وجوده غير فاعل وأصبح فاقد خاصية ارتباطه بالأرض وانعدام الإرادة الشعبية المستدامة الممثل لها، وهو تمييزٌ ينسحب على طبيعة التفاوض نفسه؛ فالتسوية المستدامة الناجحة يجب أن تكون بين الأطراف الفاعلة والقادرة على تنفيذ الاتفاقيات، وليس من تكون سببًا في أخفاقها وفشلها وهذا التوصيف من قبل الأمين العام للأمم المتحدة يضع المجلس الانتقالي الجنوبي، على أنه نواة تمثل الجنوب الي يحظى بتأييد جماهيري ورغبة شعبية كاملة من المهرة إلى باب المندب، تمكنه أن يكون طرفًا أسباسيًا في صلب أي عملية تفاوضية وعاملًا مهمًا في الحل لا عائقًا له.
وفي خلاصة ما تقدم: كانت تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة رسالة واضحة للرعاة الدوليين والإقليميين: مفادها إن الزمن قد تجاوز الحلول الترقيعية وإدارة الأزمات في مسألة الأزمة اليمنية وأسبابها والمرجعيات التي تتحدث عنها بعض الأطراف غير الفاعلين في واقع الحرب، وحتى الحديث عن السلام المستدام لا يتحقق بإسكات المدافع بصورة مؤقتة بل يقوم على معالجة جذور الصراع من أصلها بحلول عادلة تكون قضية شعب الجنوب هي مفتاحها الرئيس. وهذا ما يتوجب القول: من أن قضية شعب الجنوب قد حظيت باعتراف دولي وإقليمي متزايد، حتى أن أحد هذه الجذور الرئيسة التي تفتح أفاق الحل كان المجلس الانتقالي الجنوبي مرحبًا بها وبأي تسوية مستدامة تكون قائمة على الحوار والتفاوض الذي يجعل قضية الجنوب هي مفتاح الحل برعاية أممية وإن الدعوة التي تطلقها جماهير الجنوب، والمتماهية مع روح إحاطة غوتيريش، هي دعوة للواقعية قبل الوجدانية، وللعدالة قبل المساومات وهي تدعو الأمين العام ومبعوثه إلى زيارة ميدانية إلى محافظات الجنوب التي صارت في اعتصامات مفتوحة، للاستماع المباشر إلى إرادة شعبٍها وقضية جنوبها وترفض أن يكون التفاوض بشأن حل قضيتها على وفق تقرير المصير - رهين في معادلاتٍ معيارية بالية، وتصرّ على أن يكون مستقبل شعبها بيدها، – كما بدأ يدرك العالم – أن حل الدولتين مفتاح الاستقرار للإقليم والمجتمع الدولي وللأشقاء في الشمال اليمني.
إن تجاهل هذه الدعوة والاستمرار في محاولة إعادة تدوير الأطراف التي فقدت فاعليتها، لن يكون إلا استمرارًا للعبث، وإطالةً أمد معاناة إنسانية، وتأجيلًا لحلٍّ ستفرضه الجغرافيا والإرادة الشعبية لشعب الجنوب وعدالة قضيته التي باتت لم تعد قضية داخلية يمنية، بل قضية شعب وإرادة شعبية تؤمن بالاستقلال الناجز تتحوّل معه إلى معايير جدية في تحقيق السلام، ورهانٍ ضامن على استقرار الإقليم والمنطقة بأكملها.