آخر تحديث :الجمعة - 05 ديسمبر 2025 - 01:00 م

كتابات واقلام


الدولة العميقة و(الدولة) العقيمة

الأربعاء - 25 يونيو 2025 - الساعة 05:19 م

د. عيدروس نصر ناصر
بقلم: د. عيدروس نصر ناصر - ارشيف الكاتب


مما يؤخذ على بعض الكتاب والإعلاميين المحسوبين على فئة الأكاديميين، الإغراق في التعريفات ذات الطابع الأكاديمي الجاف، الخالي من عنصر الجاذبية والتشويق وإلهاب حماس القارئ، والأمر في الحقيقة كذلك لأن تعريف المفاهيم مدخل مهم لمعرفة مضمون الحديث وإلى ماذا يهدف.
مفهوم الدولة العميقة ليس شتيمةً سياسية ولا قذفاً إعلامياً، بل إنه مفهوم يشير إلى وجود شبكة غير رسمية من الأفراد والجماعات والمؤسسات داخل أجهزة الدولة (الشرعية) ومؤسساتها السياسية والتنفيذية والتشريعية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية والعسكرية وحتى القضائية والنيابية، في أي بلد، وتهدف هذه الجماعات إلى التأثير في عملية صنع القرار وتوجيه أنشطة الدولة لتحقيق مصالحها الخاصة، وهذا المصطلح غالبًا ما يستخدم لوصف قوى خفية تتجاوز الهياكل الحكومية الرسمية وتسعى للسيطرة على مقاليد الحكم دونما إصدار البيان رقم (1).
لكن الدولة العميقة تظهر في المراحل الانتقالية، وخصوصاً بعد الثورات الشعبية أو التحولات السياسية العاصفة، كالحروب والثورات والانقلابات وانتقال السلطة من طرف سياسي إلى طرف أو أطراف سياسية أخرى جديدة وربما مختلفة جذرياً عن السلف الحاكم، لأنها (أي الدولة العمقية) تظل في الغالب متمسكة بمشروعها الخاص الذي بنته على نمط السياسات السابقة وأحيانا يمكن أن تكون "قوى الدولة العميقة" أدوات للنظام السابق (الساقط) أو المخلوع، تتقيد بتوجهاته وتنفذ أجنداته حتى وهو خارج الحكم، أو حتى في السجون أو تحت الثرى أو في ثلاجة الموتى.
ويتجلى ذلك في الظروف الانتقالية حينما يكون نظام الحكم الجديد هشّاً وضعيفا، وعديم الصلة بالشعب وتطلعاته، ولا يمتلك الحاضنة الاجتماعية التي تحميه فيما لو دخل في مواجهة جادة مع منظومة لالدولة العميقة
وتتبع الدولة العميقة أساليبها الخاصة لتنفيذ أهدافها من خلال:
1. وجود شبكة غير رسمية، لكنها تنفذ أجندة واحدة ومنتظمة أو تعطل جهاز الدولة وأدواته الرسمية لتنمية مصالحها والحفاظ عليها.
2. النفوذ والسيطرة، ليس فقط على مواقع صنع القرار ولكن من خلال التحكم بالموارد وتوزيع الكادر وطريقة تنفيذ القرارات والسياسات الجديدة للدولة بما يخدم أهدافها (أي أهداف الدولة العميقة).
3. الاستقلالية عن الحكومة، مقابل الاستمرار بالتحكم في نشاط أجهزتها ومؤسساتها.
ويمكن الحديث مطولاً عن أهداف الدولة العميقة، سواء على مستوى البلدان المستقرة وحتى المتطورة، أو على مستوى البلدان المتأخرة أو غير المستقرة والانتقالية منها على وجه الخصوص، لكن أهم أهداف ما نسميه بـ"الدولة العميقة" هي:
1. الحفاظ على مصالح معينة؛ في الغالب الأعم تتعارض مع مصالح المجتمع والدولة؛
2. التحكم في عمليات التغيير المحتملة ومواجهة كل ما يهدد مصالحها (أي مصالح الدولة العميقة)؛
3. الاستفادة من السلطة لتنفيذ أجندة الدولة العميقة.
وكل هذه الأهداف كما هو واضح تنتهي في المحصلة الأخيرة بحماية وتطوير مصالح المنخرطين في جماعات ومؤسسات الدولة العميقة
الدولة العميقة في ظل "الدولة" العقيمة:
لقد تعمدت وضع مفردة "الدولة" بين قوسين مضاعفين، ونحن نتحدث عن أنظمة الحكم الفاشلة للإشارة، إلى أن ما نسميه دولة في هذه البلدان هو مجرد أنظمة الحكم وليس دولة، وهي في الغالب أنظمة حكم فاشلة وفاسدة وتهيمن عليها قوى وأفراد وجماعات ذات مصالح تتعارض مع وجود الدولة، بمعناها الدستوري والقانوني وبمفهوم القانون الدولي.
تأتي مفردة "العقيمة" و"العقيم" من مفردة "العقم" وهي تعني في علم وظائف الأعضاء (الفيزيولوجيا) عدم القدرة على الإنجاب، كحالة مرضية مزمنة، ولن نخوض طويلاًَ في هذه القضية، لأننا نتحدث عن الدولة العقيمة، والتي يقصد بها "الدولة" المفترضة غير القادرة على القيام بوظائفها وعجزها عن فعل شيء يدل على حضورها، أو يشير إليها عند تدوين تاريخها في المستقبل.
وبالعودة إلى وضع "الدولة " اليمنية التي تحكم الجنوب، فإن تشبيهها بالمرأة العاقر (العقيمة) أو بالرجل العقيم، فيه ظلمٌ كبير لهؤلاء العقيمين، لأن لدى هؤلاء أسباباً ليست آتية من إراداتهم، بل هي أسباب موضوعية قهرية، عضوية، مرضية، لا يستطيعون التحكم فيها، بينما تسعى "دولتنا" إلى الاحتفاظ بالعقم كسياسة متعمدة ونهج دائم تستخدمه في حربها مع الشعب الجنوبي لإجباره على التخلي عن أحلامه وتطلعاته وإسدال الستار على تضحيات أبنائه التي قدموها على مدار أكثر من ثلاثة عقود بهدف استعادة الحرية والكرامة واستعادة السيادة على أرضه، وهذا الموضوع قد توقفنا عنده عشرات المرات، ويمكن التوقف عنده مجدداً في سياق آخر.
الدولة العميقة في ظل ("الدولة" العقيمة) تتحول إلى قوة تمتلك من البطش والسلطة والهيمنة والقدرة على التحكم بمصائر البلد وأهله أكثر من "الدولة" المفترض أنها شرعية، بل إن الدولة العميقة تتحكم في "الدولة "الشرعية المفترضة نفسها، لأن أغلب رجالات "الدولة" المفترضة يصبحون جزءاً من الدولة العميقة، وهنا تتداخل المصالح وتندمج في بعضها ويصبح من مصلحة القائمين على "الدولة" المفترضة، استمرار هيمنة الدولة العميقة، حتى لو اضطروا إلى تجميد العمل بالدستور والقانون، والتغاضي عن الانحرافات والأخطاء وحتى الجرائم الجنائية والمالية والاقتصادية والسياسية طالما تناغم هذا مع متطلبات الحفاظ على مصالح أفراد هذه الدولة العميقة.