آخر تحديث :الأحد - 07 ديسمبر 2025 - 10:49 ص

كتابات واقلام


حسابات حماس بين الربح والخسارة

الجمعة - 12 سبتمبر 2025 - الساعة 06:19 م

منصور الصبيحي
بقلم: منصور الصبيحي - ارشيف الكاتب


للراية قديمًا أثناء احتدام المعركة، فلسفة تنطلق من غايات متعددة، واحدة إلى جانب رفع معنويات المقاتل، رسم صورة عند الطرف المقابل ومن حوله عن قدرة صاحبها على المبادرة والفعل ... وبشأنها على سبيل المثال ما حدث بداية البعثة النبوية وبالتحديد في السنة الثامنة للهجرة لقادة غزوة مؤته الثلاثة، أمام البيزنطيين وأعوانهم من القبائل العربية، وهم زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبدالله بن رواحة، وجميعهم نالوا استشهادهم على التوالي حاملين الراية، واحد منهم بترت يده الأولى وأصر حملها بالثانية، وما أن بترت الثانية حملها بأسنانه، لتخفق في السماء إلى أن خرّ شهيدا، وما كان على المرابطين على الجهاد يومها سوى أن يسلموا خالد بن الوليد زمام المبادرة، وقد استطاع بحنكته أن ينجو بالجيش من هلاك محقق، ليعد هذا بداية الطريق الذي تجلّت فيه عبقريته القتالية، وجسّدها من بعدها في معارك كثيرة خاضها وانتصر في جميعها، ليصبح ينظر له كرمز من رموز الدولة الإسلامية الوليدة وعامل مهم من عوامل إرساءها.

وذلك الأسلوب لم يعد قائمّا اليوم عند جميع الشعوب، وقد أختزل في نطاق أوسع منه وإلى ما يعرف اليوم بالعلم الذي يرفرف على كل مقرات الدولة ومؤسساتها الحكومية، بما فيها المركبات العسكرية والأمنية، معبرًا عن السيادة الوطنية للدولة بصورتها الجزئية أو الكاملة، وليحل محلها بما بات يطلق عليه الناطق الإعلامي أو المتحدث الإعلامي بإسم الجيش ومجلس الحرب الذي يدير المعركة عن بعد ومن داخل الأقبية المغلقة، متمتعًا بكامل النجومية والصلاحيات، وفي حال خفوت ذلك الصوت عن الظهور أمام الإعلام كعادته، يصبح مثله مثل نكوس تلك الراية على زمنها، ويعني إقرار ضمني بالهزيمة، لهذا عادة ما يكون أولئك عرضة للاستداف هم والمنصات التي تتولى نقل الخبر عنهم لإضعاف المعنويات وتسهيل المهمة للوصول لرأس هرم السلطة، لكن في مسألة حرب إسرائيل على حماس تختلف كثيرًا عن الحروب قديمها وحديثها، فلم يقتل أبو عبيدة المتحدث بإسم كتائب القسام إلّا بعد أن تم الإجهاز تقريبًا على جميع قادات الصف الأول الميدانيين للأخير، وبالتزامن مع إعلان نتنياهو إطلاق معركة عربات جدعون الثانية، ويسعى من خلالها كما يصرّح فرض سيادة إسرائيل على غزة بالكامل ويستعد لضم الضفة الغربية.

هذا كما يفتهم أن إسرائيل كانت قادرة على الوصول إلى الرجل وتصفيته وبالطريقة التي صفّت بها أقرانه، لكنها لم تستعجل أمره وفضلت تركه يسرح ويمرح يقول ما يشاء، كي توهم عبره العالم خصوصًا الأوروبيين، بأن حماس مازالت متعربدة وقادرة على إلحاق الأذى بها وبغيرها، وهي ما إلّا تستغل فرصتها تسوّي غزة بالأرض فتجعل منها منطقة غير قابلة للحياة الأدمية، وعلى هذا النحو من الطغيان والجرائم الوحشية منقطعة النظير ولم تكف عنها منذ ما يقارب سبعمائة يوم ولو لساعة واحدة ومازالت تواصلها، بقيت تناور إلى أن استشعرت عن قرب اكتمال مهمتها، باشرت في اغتياله تأهّبًا لإعلان النصر، ليصبح اليوم التالي للحرب كما توقع الكثير إسرائيليًا بامتياز.

فحماس كما يبدو أدركت مؤخرًا بأنّها كانت مكشوفة ومشوشة التفكير يطغى عندها الجانب العقائدي على السياسي، وبمعنى آخر تطالها لعبة يلعبها العدو نفسه، أتاح لها في البداية تقسيم السلطة الفلسطينية، وليمكّنها بلوغ مستوى غير مسبوق من البناء العسكري لم تبلغه حركة من قبلها وعلى مر نضال الشعب الفلسطيني، لتغتر هي وتقدم بدورها على ما اقدمت في ٧ اكتوبر.

فلو قبلت من الوهلة للمواجهة، بتسليم الأسرى لديها مقابل توقيف المعركة والخروج الآمن من غزة، ثم إحلال طرف ثالث مكانها، لكانت بالتأكيد رفضتها إسرائيل رفضًا قاطعًا، واستمرت تماطل حولها وتخلق الأعذار الواهية وبالشكل الذي يتيح لها موصلة التدمير وقتل أكبر عدد من السكان العرب، وصولًا للموقف هذا واللحظة التي فاجأت بها الجميع، لتضيف على مطالبها مطلب تعجيزي آخر وهو البقاء في غزة إلى مالانهاية.

وبالمناسبة ما فعلته حماس وفي ظل إنسداد أفق السلام وتوسّع رقعة المستوطنات مطوّقة أرضي ٤٨ من كل جانب وناحية، وبوجود شعب تسعون بالمائة منه تقريبًا يقع بين يمين ويمين متطرف، فلا يؤمن بخيار التعايش إلا من باب القوة التي تبقيه مهيمنًا على كل شبر مما يعتبرها أرض الميعاد المزعومة، لم تكن عليه ملامة، إنما ما تلام عليه هو توقيت إنطلاق المعركة واخضاعها لحسابات عقائدية ضيقة، دون مرعاة الوضع الدولي القائم، والواقع العربي المهشّم وما تمر به المنطقة من حالة ميوعة مفتعلة... وكذا لم تسأل نفسها عن المغزى من تسهيل إسرائيل وصول عائدات الضرائب والمساعدات المالية التي تتلقاها من الخارج بكل يسر إلى يدها، مع أنها تنفق غالبيتها على المجال العسكري وبناء الأنفاق.

فالمؤكّد أن حماس باتت تعاني أزمة كبيرة، وما بقي من قادتها يعيش حالة من الارتياب والكبت المستمر، ليس خوفًا من تصفية الموساد وملاحقة الطيران الإسرائيلي لهم، بل بالعكس فهم أهلًا لها وقد أثبت رجال ونساء بأنّ جميعهم أصحاب مواقف ومشروع شهادة، إنما لما قد ينسب إليهم في النهاية من خطأ تاريخيٍ فادحٍ استغله العدو الإسرائيلي أيما استغلال، للقيام بتدمير غزة، والتنكيل بما تبقّى من سكانها، ليقضي بذلك على حلم الدولة الفلسطينية إلى الأبد، إذ لم يخرج منهم عبقري وحكيم بحجم عبقرية وحكمة خالد، يوازن بين استراتيجيات النصر والهزيمة، فيرسم خطة الهجوم والانسحاب استنادًا للمعطيات والوقائع على الأرض، وما تمليه الظروف والأحداث المحيطة بهم وبالمنطقة.