آخر تحديث :السبت - 06 ديسمبر 2025 - 01:05 ص

كتابات واقلام


جنوبنا الحبيب: من عتبة التحرير إلى مرحلة التمكين

السبت - 06 ديسمبر 2025 - الساعة 12:55 ص

د.أمين العلياني
بقلم: د.أمين العلياني - ارشيف الكاتب


لقد تجاوز المجلس الانتقالي الجنوبي اليوم زمنَ صّرخة الاحتياجات إلى دَفَّة الفعل، وتخطّى مرحلة المطالبة إلى فضاء التأسيس لمداميك المشروع الوطني الجنوبي على وفق أهداف ومضامين ودوميثاق شرف تضمنتها أدبيات المجلس؛ فمن رحم المعاناة وُلدت إرادةٌ فولاذية، ومن بَوْثَقَةِ النضال تَشَكَّلَ مَشْرُوعٌه الوطنيٌّ؛ ليَحمِلُ في أحشائه بُذورَ ومقومات الدَّولة الجنوبية القائمة على الفيدرالية والديمقراطية والحوار كسمة حضارية مدنية.

واليوم، ونحن نرنو إلى أرضٍ حرَّرتها السيوف من رِجْسِ المليشيات الحوثية والإخوانية الإرهابية، تُبْزِغُ مرحلةٌ جديدةٌ تَحْمِلُ في طيّاتها تحدّياتٍ من نوعٍ آخر: وهي معركة التمكين التي تُختَبر فيها القُدُرات، وتَتَمَحَّصُ فيها الشرعيات الفعلية؛ بهدف السبر نحو الاستقلال الناجز وغير المنقوص.

لقد شَهِدَ المشهد الجنوبي على مسيرته المؤسسية، منذ انطلاق شرارة تأسيس المجلس الانتقالي الجنوبي في مايو ٢٠١٧، تحوُّلًا جوهريًّا أعاد صياغة المعادلة من جذورها؛ فالمجلس الانتقالي الجنوبي، الذي بدأ صوتًا يصدح في الميادين، نَضَجَ عبر سنوات الكفاح؛ ليُصبح كيانًا سياسيًّا ذا رُؤيةٍ استراتيجية مُتكاملة تحمل مشروع دولة مدنية فيدرالية ديمقراطية؛ وبهذا فالمجلس الانتقالي الجنوبي لم يَعُدْ مجرد حَرَكَةٍ احتجاجية تَطالب بحقٍّ مَضَى، بل تَحَوَّلَ إلى مَشْرُوعٍ سياسي وطنيٍّ يَمْتَلكُ أَرْكَانَ الدَّولةِ المَنشُودة: سِيَاسَةً رَاشِدَةً تُحَدِّدُ المَسَارَ، وَدِبْلُومَاسِيَّةً وَاعِيَةً تُفْتَحُ الأَبْوَابَ، وَجَيْشًا مسلحًا مُنَضَّبِطاً يَحْمِي الحُدُودَ وَيُرْسِي الأَمْنَ. إنَّه صِرَاعٌ تَحَوَّلَ مِنَ الرَّدَّةِ إلَى الفِعْلِ، وَمِنَ الحُلْمِ إلَى المَخْطَّطِ بصورة واقعية لا تقبل الجدل.

وكما جاء تحريرُ وادي حَضْرَمُوتَ وَومحافظة المَهْرَةَ مؤخرًا؛ لِيَكُونَ نهاية النُّقْطَةَ الفَاصِلَةَ في هذه الرِّحْلَةِ الطَّوِيلَةِ من النضال والكفاح لكي ينهي رحلته النضالية وينتقل بعدها إلى مرحلة هي الأصعب في مسيرة النضال والكفاح بهدف السبر نحو غاية التمكين؛ فَهَذِهِ الأَرْضُ التي طَهَّرَهَا أَبْنَاءُ الجَنُوبِ مِنْ دَنَسِ مَلِيْشِيَاتِ الحوثي والإِخْوَانِ لَمْ تَكُنْ مُجَرَّدَ امْتِدَادٍ جُغْرَافِيٍّ على الخَرِيْطَةِ، بَلْ كَانَتْ إعلانًا صارِخًا بِقُدْرَةِ المَشْرُوعِ الجَنُوبِيِّ على الفِعْلِ وَالتَّحَمُّلِ حتى قَدَّمَ أنَموذَجًا عمليًّا في إِدَارَةِ المَنَاطِقِ المحررة وَإقَامَةِ الأَمْنِ وَاسْتِقْطَابِ الاعتِرَافِ الدَّوْلِيِّ الضمني بها كمرحلة أولية تكسبه أحقية البقاء؛ ليصبح شَرِيْكًا أَمْنِيًّا وسياسيًّا فاعلًا وأسياسيًّا لا غِنَى عَنْهُ، وهَكَذَا تَحَوَّلَتِ قُوَّته المَيْدَانِيَّةُ إلى وَرَقَةٍ رَابِحَةٍ في لَعْبَةِ السِّياسَةِ، وَبَرْهَنَ من خلالها الجَنُوبُ أَنَّهُ لَيْسَ جُزْءّا مِنَ المُشْكِلَةِ، بَلْ طرفًا أسباسيًّا وفاعلًا في حَلِّ القضية والأزمة اليمنية برمتها وليس هذا فحسب بل ومفتاح الحل النهائي والاستقرار الآمن للمنطقة بأكملها.


ومَعَ اسْتِقْرَارِ غُبَارِ التطهير في سَاحَاتِ القِتَالِ في وادي حضرموت والمهرة، تَبْرُزُ عَلَى السَّطْحِ مَعْرَكَةٌ أُخْرَى حَاسِمَةٌ ينتظرها الجنوب، سِلاحُهَا الفِكْرُ وَالكَلِمَةُ وَالمَصْلَحَةُ، لكي تؤهل الجَنُوبُ ليكون فَصْلًا جَدِيدًا مِنْ فَصُولِ صِرَاعِهِ، هُوَ فَصْلُ التَّمْكِينِ السِّياسِيِّ وَالاعْتِرَافِ به في معادلة الحل النهائى ومفتاح الاستقرار الآمن للمنطقة بنيل استقلاله بحدود ما قبل عام 1990م، وَفِي هَذَا المَضْمَارِ، تَتَرَاصُفُ أَسْئِلَةٌ مَصِيرِيَّةٌ تَتَطَلَّبُ أَجْوِبَةً وَاضِحَةً:

· هَلْ سَيُجْبِرُ الوَاقِعُ الجَدِيدُ بِثِقَلِهِ على إِعَادَةِ هَيْكَلَةِ مَجْلِسِ القِيَادَةِ الرِّئَاسِيّ؛ لِيُصْبِحَ مِرْآةً صَادِقَةً تَعْكِسُ حَقَائِقِ الأَرْضِ، بَدَلاً مِنْ أُطُرٍ بَالِيَةٍ تَعَارَضُ مَعَ لُغَةِ المستجدات الماثلة على الأرض؟
· وَمَا هِيَ حَصَّةُ الجَنُوبِ وَمَكَانَتُهُ في أَيِّ مُفَاوَضَاتِ سَلَامٍ مُسْتَقْبَلِيَّةٍ؟ أَيَكُونُ مُشَاهِدًا أَمْ فَاعِلًا رَئِيسًِا واسياسيًا تُؤْخَذُ مُقْتَضَيَاتُهُ بِعَيْنِ الاعْتِبَارِ؟
· وَالأَهَمُّ، هَلْ سَيَتَحَوَّلُ الِاعْتِرَافُ الضِّمْنِيُّ الدَّوْلِيُّ بِقُدْرَة المجلس الانتقالي الجنوبي الأَمْنِيَّةِ والعسكرية إلى اعْتِرَافٍ سِياسِيٍّ صَرِيحٍ بِمَشْرُوعِهِ الوَطَنِيِّ في الاستقلال بحدود عام 1990م؟

هَذِهِ التَّحَدِّياتُ تَكْمُنُ في قُلْبِ المَرْحَلَةِ القَادِمَةِ، حَيْثُ تَخْتَبِرُ حِكْمَةَ القَائِدِ وَبَصِيرَةَ الدِّبْلُومَاسِيِّ، وَقُدْرَتَهُمَا على تَصْرِيفِ رَأْسِ المَالِ السِّياسِيِّ الذي جَنَاهُ الجُنْدِيُّ بِسَخَاءٍ على تراب الجنوب من المهرة شرقًا إلى باب المندب غربًا.

إِنَّ رِحْلَةَ التَّمْكِينِ مَعَادَلَةٌ دَقِيقَةٌ بَيْنَ الدَّاخِلِ وَالخَارِجِ؛ فَدَّوْلَة الجنوب لَا تُبْنَى بِالسِّلَاحِ وَحْدَهُ، وَلَا تُسْتَدَامُ بِالاعْتِرَافِ الخَارِجِيِّ فَقَطْ، فَمِنَ الضَّرُورِيِّ تَحْوِيلُ الانْتِصَارِ العَسْكَرِيِّ الأخير في تحرير وادي حَضْرَمُوتَ وَمحافظة المَهْرَةِ إلى أنُموذَجٍ حُكْمِيٍّ رَاشِدٍ يَلْمَسُهُ المَوَاطِنُ؛ فَالتَّمْكِينُ الحَقِيقِيُّ يَبْدَأُ بِتَقْدِيمِ الخِدْمَاتِ، وَإقَامَةِ العَدْلِ، وَحَمَايَةِ الحُقُوقِ، وَبِنَاءِ المُؤَسَّسَاتِ القَادِرَةِ عَلَى اسْتِقْطَابِ ثِقَةِ الشَّعْبِ وَتَأْيِيدِهِ لأن الشَّرْعِيَّةُ الدَّاخِلِيَّةُ هِيَ الأَسَاسُ الَّتِي تَقُومُ عَلَيْهَا أَيَّةُ شَرْعِيَّةٍ خَارِجِيَّةٍ.

وعَلَى الصَّعِيدِ الخَارِجِيِّ، يَجِبُ تَحْوِيلُ صُورَةِ الشَّرِيكِ الأَمْنِيِّ المُفِيدِ بحدود الحماية إلى صُورَةِ الشَّرِيكِ السِّياسِيِّ الضَّرُورِيِّ. وَذَلِكَ يَتأَتَّى بِعَرْضِ رُؤْيَةٍ وَاضِحَةٍ مُقْنِعَةٍ لِمُسْتَقْبَلِ الجَنُوبِ، تُحَقِّقُ الاسْتِقْرَارَ الإِقْلِيمِيَّ وَتَصُبُّ في صَالِحِ المَصَالِحِ الدَّوْلِيَّةِ الاسْتِراتِيجِيَّةِ، لا سِيَّمَا فِي مَجَالِ أَمْنِ المَمَرَّاتِ البَحْرِيَّةِ وَمُحَارَبَةِ الإِرْهَابِ والاتجار بالبشر والمخدرات وتهريب الأسلحة وهذا ما نجحت به قواتنا الجنوبية الأمنية والعسكرية فعليًّا وبحاجة إلى طلب التأهيل والتدريب لتكون بالصورة المطلوبة.

ومن هنا فقَدْ اجْتَازَ الجَنُوبُ عَتَبَةَ التَّحْرِيرِ بِجَسَارَةٍ نَادِرَةٍ، وَوَطِئَ بِقُوَّةٍ عَتَبَةَ التَّمْكِينِ. وَهَا هِيَ الأَبْوَابُ القَدِيمَةُ تَنْغَلِقُ وَأَبْوَابُ التَّحَدِّيَاتِ الجَدِيدَةِ تَنْفَتِحُ؛ فَمَا حُقِّقَ عَلَى الأَرْضِ يَجِبُ تَرْجَمَتُهُ إلى مُكْسَبَاتٍ عَلَى مَائِدَةِ الحِوَارِ، وَمَا بُنِيَ بِالعَزْمِ يَجِبُ تَثْبِيتُهُ بِالحِكْمَةِ؛ إنَّه امْتِحَانُ القُدْرَةِ عَلَى الإِدَارَةِ وَالتَّخَطِيطِ وَالتَّفَاوُضِ، وَبَيْنَمَا تُعِيدُ الدُّوَلُ الكُبْرَى حِسَابَاتِهَا لِتُدَافِعَ عَنْ مَصَالِحِهَا، عَلَى الجَنُوبِ أَنْ يُدَافِعَ بِحَذَقٍ وَثَبَاتٍ عَنْ حَقِّهِ التَّارِيخِيِّ في وِجْهَةٍ وَاحِدَةٍ: دَوْلَةٍ حُرَّةٍ كَرِيمَةٍ، تُحَقِّقُ حُلْمَ الآبَاءِ وَأَمَلَ الأَبْنَاء؛ فالرِّحْلَةُ لَمْ تَنْتَهِ، وَالكَفَاحُ مُسْتَمِرٌّ، وَلَكِنَّ البُوصَلَةَ وَاضِحَةٌ: قُدُمًا نَحْوَ التَّمْكِينِ.