آخر تحديث :الخميس - 03 أكتوبر 2024 - 12:07 م

ثقافة وأدب


جهد مشكور .. لجمع أشعار صالح بن منصور

الجمعة - 23 سبتمبر 2022 - 11:25 م بتوقيت عدن

جهد مشكور .. لجمع أشعار صالح بن منصور

#علي_صالح_الخلاقي

سررت أيما سرور لإقدام مجموعة من أبناء شعب العرب-مكتب اليزيدي بيافع، على رأسهم كل من: صالح محمد عبد الله (ابو صقر) والفنان عبد الله علي محمد (ابو خالد) وآخرين على مبادرة جمع وتوثيق أشعار أحد الشعراء المغمورين من منطقهم حتى لا تتعرض للإهمال والنسيان على طريق نشرها وإصدارها في ديوان يضم أشعاره ومساجلاته التي يمكن جمعها، وهي خطوة تستحق الشكر والتقدير والإعجاب، ويجب أن يُقتدى بها من قبل المهتمين في بقية المناطق.
الشاعر هو صالح منصور عبد الله السَّكِئ ، الشهير في منطقته بلقب (عيسى)، ربما لم يسمع به كثيرون، وأنا أحدهم، ولا شك أن أمثاله الكثير في بقية المناطق ممن نظموا الشعر بالفطرة وعن موهبة، ممن غادروا دنيانا دون أن يفكروا في تسجيل وتوثيق أشعارهم، لأنهم عاشوا في زمن انعدم فيه التدوين والتوثيق، ولم يفكروا قط أن تصدر أعمالهم مطبوعة في كتاب.

ولد في النصف الأول من عشرينات القرن الماضي(ما بين1920-1925م)، لأسرة فلاحية متوسطة الحال ، في مسقط رأسه "ذي جليد" قرية (أهل عبد الله) الواقعة في وادي شعب العرب الخصيب بمنطقة اليزيدي، ونشأ وتربى في كنف والده ورعايته وفي أحضان قريته مارس ألعاب الطفولة التقليدية مع أقرانه، ومثلهم حُرم من التعليم لعدم وجود المدارس حينها، وكان عليه أن يبدأ حياته صغيراً برعي الأغنام في أودية وشعاب المنطقة حيث الطبيعة الجميلة واخضرار العشب، لاسيما في السنوات الممطرة، ثم عمل في زراعة الأرض التي كانت مصدر المعيشة الرئيسي بما تجود به من ثمار الذرة بأنواعها والدخن، فكان عوناً لوالده وتعلم منه حب الأرض وكيفية الاعتناء بها بحرثها وتقليبها وريها وبذرها لتجود بثمار طيبة.
ولأنه قد نشأ في بيئة شعرية وفي وسط اجتماعي يحب الشعر ويجل الشعراء فقد كان لذلك تأثيره على موهبته الشعرية التي تفجرت لاحقاً، ولا شك أنه كان يردد أغاني الرعاة، وأهازيج الزراعة وزوامل الأفراح في الأعياد والزواج ..الخ، وربما نظم بعض الأشعار للتنفيس عن موهبته منذ وقت مبكر.

لم يستقر الشاعر في مسقط رأسه فمنذ أن شب عن الطوق تقاذفته رحلات السفر والاغتراب ، فغادر مسقط رأسه (شعب العرب) أولا إلى حضرموت عام 1946 تقريباً بمعية أخيه الصغير حمود للالتحاق بشقيقهم الأكبر علوي الذي كان قد سبقهم إلى هناك، في عهد السلطنة القعيطية، ولم يستقر به المقام طويلاً في حضرموت، ربما أنه لم يجد العمل المناسب وقضى السنوات الأربع في أعمال يدوية يوميه لكسب لقمة العيش، فغادر من حضرموت نهاية الأربعينيات ملتحقاً بالأسراب المهاجرة من أبناء بلدته إلى الكويت، التي كانت مركز جذب حينها للمهاجرين من يافع للالتحاق بمن سبقهم إليها، ومكث في الكويت من مطلع الخمسينيات وحتى نهاية عام 1959م، حيث عاد إلى منطقته وارتبط بشريكة حياته وأم أولاده ، ومكث بضع سنوات ، لكن ظروف الحياة وتوفير لقمة العيش الشريف قادته ثانية إلى الكويت ومكث يعمل هناك حتى عام 1968م ، حيث ودّع حياة الاغتراب واستقر نهائياً في مسقط رأسه، مع زوجته وأولاده (ولدان وثمان بنات)، وعمل في أرضه الزراعية الشحيحة، وكافح لتوفير العيش الكريم لأسرته وأولاده بالعمل على سيارته الخاصة داخل المنطقة وخارجها سواء في نقل الركاب أو البضائع، وكانت حينها مصدر دخل مناسب لقلة السيارات حينها.

كان الشاعر شخصية اجتماعية مرحة ومحبوبة ، بشهادة كل من عرفه، يشارك الناس أفراحهم وأتراحهم، ويسهم في حل مشاكلهم وإصلاح ذات البين، لما يحظى به من تقدير واحترام، وقد ارتبط بالشعر منذ وقت مبكر من حياته، وكان ينظمه عن موهبة في مناسبات خاصة وعامة، أو للتنفيس عن النفس ، وله أشعار كثيرة ومساجلات لكنه للأسف لم يكن يحفظها أو حتى يفكر بتدونها لأنه كان أمياً، لا يجيد القراءة والكتابة، ثم أنه لم يدُر في خَلَده خلال حياته أن تجد أشعاره أي اهتمام، ناهيك عن صدورها في كتاب، ولذلك ذهب الكثير منها مع رحيله عن دنيانا عام 2004م ، وبقي منها فقط ما يحفظه البعض من هذه الأشعار ويتناقلونها شفهيا، ومن حسن الحظ أيضاً أن بعض قصائده قد لقيت طريقها إلى المطربين الشعبيين فحفظوها لنا مغناة بأصواتهم من خلال الأشرطة التي كان لها رواجها في العقود القليلة الماضية، قبل أن تطغى عليها وتفقدها مكانتها وسائل التواصل الحديثة، ولذلك يقوم المبادرون بجمع ما أمكن منها سواء ممن يحفظها أو ممن بقيت لديهم أشرطة الكاسيت التي تحتوي على قصائده، وعلى الأخص قصائد المساجلات التي جرت بينه وبين بعض الشعراء الشعبيين، وبعض من تساجل معهم ما زالوا على قيد الحياة ولا شك أنهم يحتفظون بقصائد البدع والجواب التي تبادلوها معه، وربما يحتفظون ببعض أشعاره الأخرى هم أو غيرهم من المعجبين بالشاعر وشعره، لاسيما وأن عهدهم به قريب لم يتجاوز العقدين من الزمن.

نماذج من أشعاره:
---------
حصلت على قليل من أشعاره لم تتجاوز أربع قصائد وافاني بها صلاح صالح السركال مع نبذة عن حياته، حفزتني لكتابة هذه الإضاءة عن حياته وشعره..
ومن جميل شعره نقدم هذه القطوف الدانية المطرزة بالحكمة والنصائح التي تغلب على أشعاره ، فقد أودع قصائده خلاصة تجاربه خلال مسيرة حياته في مدرسة الحياة التي عركته سواء في محطات الاغتراب أو الكفاح والعمل في مسقط رأسه، وتعلم الكثير من مدرسة الحياة ، أكثر مما يتعلمه البعض في المدارس والجامعات، فالحياة أكاديمية لمن أراد أن يتعلم من دروسها، وقد فعل ذلك ، وترك لنا هذه الدرر التي ستخلد للأجيال.
نستهل هذه النماذج بأبيات من قصيدة يبدو فيها تأثره الواضح بمحيط عمله خلال اغترابه في الكويت الشقيق التي كانت حاضنة للفكر القومي العربي، وفيها الكثير من المغتربين من أبناء جلدته ممن تفتح فيها وعيهم القومي، لا سيما بعد قيام ثورة مصر الناصرية وتأثيرها الواسع الذي تركته في استنهاض الوعي التحرري وتأجيج مشاعر العداء ضد الاستعمار وعملائه.
ومن قصيدة قومية قالها في الكويت بعد الإطاحة بالإمام البدر في صنعاء سنة 1962م، نورد هذه الأبيات التي يحيي فيها الثورة المصرية ورحيل المستعمر البريطاني منها، وينبأ برحيل (العجوز) من جنوب الجزيرة العربية، مشيداً بالدور الكبير للزعيم جمال عبدالناصر في وحدة الأمة العربية ومجابهة الاستعمار والانتصار لقضية فلسطين، يقول فيها:

قال السَّكِئْ نار قلبي عالقه

ساهر منامي وضيعني ضياع

ولكن الصبر حِكْمه (بالغه)

صبر الخشب عالمياشير القطاع

بتخبرش يالجبال الشاهقه

كيف الخبر يَهْل لَوْدِيه الوساع

لا تهملون الأمور الشاقه

تصبح بلدكم فريسة للسباع

يخشى عليكم وقوع الصاعقه
يا زارعين الخيانة والخداع

عجوزكم من رجلها طالقه

وانتم في المهد تبقون الرضاع

من مصر راحت يديها (فارغه)

معطوفة الظهر مكسورة نخاع

متلوثة في دماها غارقه

بعد الهزيمة بميدان الصراع

ومن جنوب الجزيرة لاحقه
على سفينه مقطعة الشراع

قادات شعب العرب متوافقه

ناصر طلبهم لعقد الاجتماع

وحدة إخوِّه وقوِّه ساحقه

يجابهون العدو بأقوى دفاع

يصبح فلسطين شمسه شارقه

أرض العرب للعروبة لن تباع

والبدر مسكين مثل السارقه

الخوف والرعب فيهم والمجاع

أصبح بغابات نفسه ضايقه

يطلب من انجلترا بقشة وصاع

ويلاحظ وقوع الشاعر في الخطأ الذي نجده لدى غيره من الشعراء الشعبيين الذين لا يميزون بين الغين والقاف، كما في قوله (فارغة).
ومن شعره خلال غربته في المهجر ، في عز شبابه وبعد زواجه، قصيدة ضَمَّنها الشوق والحنين للوطن والأهل والأحباب، يستلها بقوله:" خذني معك وامسافر من بلد لا بلد"، وتحتاج أبياتها للتحقق بسبب الخلل في الوزن في بعض الأبيات التي وصلتني، وهو خلل سببه النقل عن الحفظة، و لا يمكن أن يقع به شاعر متمكن مثله.
ومن درر قوله في الحكمة والموعظة والنصح، نختار هذه الأبيات التي نجد الكثير منها في بعض قصائده، وهي تنم عن عمق ورصانة أشعاره التي تذم السلوكيات السيئة وتحض على القيم النبيلة والتقاليد الحميدة التي يجلها المجتمع:

يا راسي ابدع بقولك هَنْدِسَه

كلمات ذكرى لجيلك والخليف

حَكِّم ضميرك وعقلك جَلِّسَه

وذَكِّر النفس في الموت المخيف

من لا تَعَلَّم حياته مدرسه
يَعَدِّل المشي من دق الرصيف

والكبر يا من يشله نَكَّسه

ونزله تحت من فوق الزفيف

لا فايدة في الجشع والغطرسه

ما تعمد الا بلنسان السخيف

والناس من هو يحب اللهسسه

يكون خسران من شله سعيف

يجهل اصول الشرف والنومسه

يمكن يبيعك بحبة رغيف

والتجربة فحص من شئت افحصه

تعرف من التجربة اصلي وعيف

وها هو شاعرنا حين أكمل الخامسة والسبعين من العمر ينظم قصيدة يتحسر فيها على ذهاب السّلى (الوَله) الذي كانت تطيب له نفسه عبر الأعوام الطوال المنقضية من عمره ، وذهاب العادات التي اعتاد عليها (العوايد لوّله)، ثم يحث كعادته في نصائحه على التمسك بكثير من القيم والتقاليد النبيلة التي نعرض بعضها في الأبيات المنتقاة التالية من قصيدة طويلة:

قال ابن منصور غبنه عالْوَلَهْ

ذي يعرفه عَبْر لعوام الطوال

العمر خمسة وسبعين اكمله

لا زال يتخيل الماضي خيال

راح السلى والعوايد لوله



والصدق باقي بمجموعه قِلال

دار الفلك والأمور اتبدله

والتالية نسأل الله الجلال

من حب يرتاح يحكم منزله

ويبنِّد اذنيه من قيلٍ وقال

والباب ذي منه الريح اقفله

حفظاً لحالك ومالك والعيال

الجهل حط الحقيقة مهمله

ﻻ خير في علم ما ينهي ضلال

ومن يظاهر في الدين ابطله

ماشي على الله حيله واحتيال

أهل الطمع كل ما جي يأكله

ويأكلوا ذي أَبَتْ منه الجبال

مهما حبال المظالم طَوَّلَه

كم قبلهم من مقاطيع الحبال

ختاماً.. هذه نماذج فقط من أشعاره الكثيرة التي ما زالت في طور الجمع والتدوين ، ونظم صوتنا هنا إلى صوت أصحاب هذه المبادرة الرائعة لإنجاح مبادرتهم الإيجابية لجمع أشعار الشاعر والتحقق منها وتوثيقها على طريق النشر.. ونأمل أن يتجاوب كل المعنيين والمهتمين من أبناء المنطقة مع هذه المبادرة لإنجاحها، ونخُص في المقدمة أولاد وأقرباء الشاعر وأولئك الذين عاصروه أو تبادلوا معه المساجلات الشعرية أو من غنى أو حفظ أي من أشعاره،.
وتحية تقدير لأصحاب المبادرة وكل من تجاوب معهم أو اقتدى بهم في جمع وتوثيق نفائس تراثنا غير المدون، ليكون في متناول الجميع..

صورة لمسقط رأس الشاعر"ذي جليد" قرية (أهل عبد الله)👇