آخر تحديث :الخميس - 18 ديسمبر 2025 - 01:16 م

كتابات

ثغرة قانونية واقتراح للتعديل!
العقوبة التعزيرية البديله للاعدام قصاصًا؛ لعدم توافر دليله الشرعي

الجمعة - 30 ديسمبر 2022 - 03:29 م بتوقيت عدن

العقوبة التعزيرية البديله للاعدام قصاصًا؛ لعدم توافر دليله الشرعي

القاضي صالح عبدالله المرفدي*

#أولا: تمهيد
ما من شك أن جريمة القتل العمد، هي الأكثر تفشيا وانتشارا في الوقت الحاضر، ولأجل الحدّ قدر الامكان من ارتكاب هذة الجريمة، لابد من التشدد في العقاب بالقصاص الشرعي، عملا بقوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، ولاقامة القصاص، لابد من توافر شروط عدة، اهمها توافر الدليل الشرعي لاثبات الجريمة، ولذلك نص القانون اليمني على هذا الشرط صراحة، لكن ما يؤاخذ عليه، أنه تساهل في تحديد العقوبة التعزيرية البديله، في حال سقوط القصاص؛ لعدم توافر دليله الشرعي، والمحصور (بشهود العيان، أو اقرار الجاني الصريح)؛ لأن القرائن القضائية القاطعه (من وجهة نظر المشرع)، ولو كانت يقينية ومقنعه وصريحه، كالبصمة الوراثيه، أو كاميرات المراقبه، أو الجرائم المشهودة ونحو ذلك… لا محل لها لتطبيق عقوبة الاعدام ولو على سبيل التعزير، أو على الاقل عقوبة السجن المشدد.. وفي هذا الشأن، سندرس الثغرة القانونية الذي يعاني منها التشريع اليمني، والمتمثله بتفاهة ومحدودية العقوبة التعزيرية البديله، في حال سقوط القصاص لعدم توافر دليله الشرعي.

#ثانيا: النص القانوني
نصت احدى فقرات المادة (234) من قانون الجرائم والعقوبات في هذا الخصوص بما يلي: "ويشترط للحكم بالقصاص أن يطلبه ولي الدم، وأن يتوافر دليله الشرعي، فإذا تخلف أحد الشرطين أو كلاهما، وأقتنع القاضي من القرائن بثبوت الجريمة في حق المتهم، أو إذا امتنع القصاص، أو سقط بغير العفو، يعزّر الجاني بالحبس مدة لا تقل عن ثلاث سنوات، ولا تزيد على عشر سنوات".

#ثالثا: تأصيل وتحليل النص اليمني
يتضح من خلال هذا النص، أن المشرع اليمني حدد العقوبة التعزيرية البديلة؛ في حال سقوط القصاص، لعدم توافر دليله الشرعي، بالحبس مدة لا تقل عن ٣ سنوات، ولا تزيد عن ١٠ سنوات.. وفي (تصوري المتواضع)، أن هذة العقوبة مخففة للغاية، بل وتافهه الى ابعد الحدود، فقد لوحظ أن مقدار هذة العقوبة، أقل بثلاث درجات من عقوبة الاعدام قصاصا، وكان الاجدر بالمشرع، أن ينزل درجه واحده في العقوبة، وذلك بالنص على عقوبة الاعدام تعزيرا، بدلا عن الاعدام قصاصا، او ينزل درجتين في العقاب كحد ادنى، وذلك بالنص على عقوبة السجن المشددة بما لايقل عن ١٥ سنه، طالما وقد نصّ صراحة على عبارة مفادها الاتي: "واقتنع القاضي من القرائن بثبوت التهمه في حق المتهم"، ولكي نوضح معنى هذة العبارة، يجب ان نأصلها ونحللها حسب ما هو متعارف عليه بالتطبيقات القضائية، وشروحات الفقة الجنائي وفقا لما يأتي:

١- من حيث اقتناع القاضي، ويعني الاتي:
أ- إن هذا الاقتناع لا يتوفر لدى القاضي الجنائي، إلا اذا كان اقتناع يقيني، صريح، قاطع، جازم، لا يحتمل الشك الذي يفسّر لمصلحة المتهم.
ب- إن المقرر في الاثبات الجنائي، أن القاضي لا يصل الى الاقتناع، إلا اذا كان قائما ومبني علي دليل قضائي، طرح للمناقشة بالجلسة، بحضور الخصوم، وبصورة علنية.
ج- إن الاقتناع اليقيني، يجب أن يكون مستقيم على دليل قُدّم بطريقة مشروعه من الناحية الموضوعيه والاجرائية.
د- إن هذا الاقتناع لا يتولد، الا بنا ًء على المام القاضي مصدر الحكم بجميع الأدلة.

٢- من حيث القرائن القاطعة:
أ- إن المقصود بلفظ "القرائن" الذي يتوصل بها القاضي الجنائي الى الاقتناع اليقيني بثبوت التهمه بحق المتهم، هي القرائن القضائية القاطعه، والتي تعتبر دليلا مستقلا وقويا، يمكن الحكم على اساسها بالادانة، ومن هذة القرائن، ماذكرته نص المادة (٥٥) فقره (ب) اثبات ونصها الاتي: "خروج شخص من داره في يده سكين تقطر دمًا، أو سلاح ناري عليه أثر الاستعمال، مع وجود قتيل في تلك الدار وليس بها غيره".
ب- يعتبر دليل "كاميرات المراقبة"، المنتشرة في اغلب الشوارع والاحياء والمحلات والعمارات، من أهم القرائن القاطعه، فهي ترصد افعال وحركات وتصرفات المشاة، وتوثق وتحفظ صور الحوادث، وتنقل نقلاً امينا وصادقا ومحايدا لوقائع وحوادث القتل والجرائم الاخرى، ولاتخضع لتدخلات المصورين، ورغباتهم وتوجيههم، ولذلك فهي اكثر حيادا واماناً، وتشابه إلى حد كبير مشاهدات الشهود للحادث وقت وقوعه، بل تكون اكثر ضبطاً ودقة من شهادات الشهود، التي يعتريها النسيان والهوى.
ج- بالاضافة الى دليل التلبس المذكور في الفقرة (ب) (م٥٥) اثبات، ودليل كاميرات المراقبه، هناك دليل اخر يمكن الاعتماد عليه؛ لاثبات جريمة القتل وهي "البصمة الوراثية ADN"، والتي تساهم مساهمة فعالة في تحديد شخصية المشتبه فيه، فمن خلال العينة البيولوجية التي يتم العثور عليها في مسرح الجريمة، يمكن تحديد هوية الجاني، كما أنها اكثر تطورا من الناحية العلمية، ونتائجها صحيحه وبنسبة اكثر من ٩٩,٩٪؜، ولا يقتصر وجودها في البصمة التقليدية للاصابع، بل في كل اجزاء الجسم، من اليد والقدم والشفاه والعين والأذن والشعر…وتؤدي للكشف عن الهوية الحقيقية للشخص ولو أنكر ذلك بنفسه.

٣- من حيث قوة وقيمة القرائن القاطعه:
غني عن البيان، إن مسألة تقدير العقوبة، يكون تبعا لدرجة ونوع القرينة، الذي استند اليها القاضي في اقتناعه، بوقوع الجريمة في حق المتهم.. فعلى سبيل المثال:
- يمكن الحكم بالاعدام تعزيرًا، اذا ما تحققت القرينة المتعلقه بالجريمة المشهودة، والذي ذكرتها المادة (٥٥) فقره (ب) اثبات.
- ويمكن الحكم بالحبس خمسة وعشرين سنه، في حال شوهدت الجريمة في كاميرات المراقبه كما ذكرنا سابقا.
- ويمكن الحكم بالسجن خمسة عشر سنه، على شخص هدد اخر بقتله في يوم معين كتابيا، وعبر احدى وسائل التواصل، وبالفعل وجد المجني عليه قتيلا في نفس هذا اليوم المحدد.

#رابعا: التوصيات والمقترحات
وفي هذا الاطار، لابد من الاشارة، إن التطبيقات القضائية للمحاكم الجنائية في الدول العربية، تقضي بتطبيق عقوبة الاعدام أو السجن المؤبد، الذي لا يقل عن ٢٥ سنه؛ في حال اقتنع القاضي من القرائن، اقتناعا يقينيا بثبوت الجريمة بحق المتهم، إلا التشريع اليمني الذي يقضي بعقوبة هزيله، تافهه، خجوله، بالحبس لا يقل عن ٣ سنوات ولا يزيد عن ١٠ !! فهل يمكن بهذه العقوبة تصان الدماء من القتل؛ تحت مبرر عدم توافر الدليل الشرعي؟؟!!
ومن هذا المنطلق، فإن منع اثبات جرائم القتل بالقرائن يهدر الدماء، ويشجع على ازهاق الارواح، ويساعد القتله على الإفلات من العقوبة الموجبه للاعدام قصاصا تحت مبرر (عدم ثبوت الدليل الشرعي الموجب للقصاص)، الذي اصبح حجه قانونية ثابته للاحكام القضائية؛ ويحتار القاضي باختيار عقوبة تعزيرية بالحبس من ثلاث الى عشر سنوات!! ولذلك: نهيب ونوصي ونقترح على المشرع بالاتي:
١- حذف عبارة (وأقتنع القاضي من القرائن بثبوت الجريمة في حق المتهم)، والاقتصار على الفقرات السابقه، وهي: (ويشترط للحكم بالقصاص أن يطلبه ولي الدم، وأن يتوافر دليله الشرعي، فإذا تخلف أحد الشرطين أو كلاهما، أو إذا امتنع القصاص، أو سقط بغير العفو، يعزّر الجاني بالحبس مدة لا تقل عن ثلاث سنوات، ولا تزيد على عشر سنوات).
٢- تضاف فقرة اخرى، ونصها كالاتي: (واذا طلب ولي الدم القصاص، ولم يتحقق المانع والمسقط للقصاص بغير العفو، واقتنع القاضي من القرائن القاطعة، بثبوت الجريمة بحق المتهم، يعاقب الجاني بالاعدام تعزيرا، أو الحبس مدة لا تقل عن خمسة عشر سنه، ولاتزيد عن خمسه وعشرين سنه).
ومن الضروري "كما ذكرنا سلفا"، أن نترك للقاضي فسحه ومجال بين اختيار عقوبة الاعدام تعزيرا أو الحبس المذكور، كل ذلك، متى ما إطمأن وجدان القاضى الجنائي، واقتنع بأهمية القرينة القاطعة وقوة ودرجة حجيتها، و وجد أنها واضحة الدلاله، و وثيقة الصلة بثبوت وقوع الجريمة في حق المتهم؛ شريطه أن يبين العناصر التي استمد منها رأيه، والأسانيد التي بنى عليها قضاءه، وما إذا كانت تؤدي عقلا ومنطقا إلى النتيجة التي خلص إليها من عدمه.

#خامسا: الخلاصه
في الاجمال، يتضح أن الخلل يكمن في قانون الإثبات اليمني، الذي لا يجاري وسائل الإثبات الحديثة؛ لأنه لا يمنح القرائن قوة ثبوتية في قضايا القتل العمد، ولذلك تتكرر في الأحكام القضائية عبارة: "لعدم ثبوت الدليل الشرعي الموجب للقصاص"، وكان على المشرع، تدارك الخلل الموجود في قانون الاثبات، بالنص صراحة في قانون العقوبات "وباعتباره قانون خاص"، على تشديد العقوبة بالاعدام تعزيرا أو بالسجن المشدد؛ في حال سقوط القصاص؛ لعدم توافر دليله الشرعي؛ ليفسح المجال امام القاضي باختيار العقوبة المناسبة؛ وليسدّ خلل وعورة قانون الإثبات، الذي يتسبب احيانا في إهدار الدماء التي عصمها الله. ولا مبرر لمن قائل بعدم جواز الحكم بالاعدام تعزيرا، في حال عدم تحقق الدليل الشرعي للقصاص بالنفس؛ لأن المشرع نص على عقوبة الاعدام تعزيرا في الكثير من الجرائم، كالجرائم الماسه بأمن الدوله. ولأن المقرر والمعلوم شرعا وباتفاق الفقهاء، بجواز الحكم بالاعدام تعزيرًا بدليل القرينه القاطعه، وان تقدير ذلك متروك لولي الامر، من باب درء المفاسد، وحماية مصالح الامه، وتحقيق مقاصد الشريعة الاسلامية في اثبات الجرائم، وحفظ الدماء والأموال والاعراض.
ولعلّ خير شاهد على صوابية اقتراحنا هذا، هو وقوف "القضاء في صنعاء"، عاجزًا في الحكم على الجريمة الوحشيه البشعه، الذي ارتكبها احد الابناء وزوجته في حق أبيه، بعد أن هشم رأسه بالمطرقه؛ إلا أن كاميرات المراقبه، كشفت قيامة برمي جثة الأب من سيارتهما امام المنزل!! وما كان من المحاكم بدرجاتها الثلاث، إلا أن تقف حائره، بين سندان الحق الذي ظهر لها جلياً، وبين مطرقة تطبيق نصوص قانوني الإثبات والعقوبات، الذي نزعا يد المحاكم وقيدها، فلم يجدوا إلا أن يحكموا، بالزامهما بدفع دية العمد، والتعزير بالحبس مدة سبع سنوات؛ لسقوط القصاص تحت مبرر: "عدم توفر دليله الشرعي!!".
هذا تصوري واجتهادي، والله الموفق والأعلم بالصواب.

*صالح عبدالله المرفدي
قاض محكمة نقض
دكتوراه القانون الجنائي
جامعة عين شمس