آخر تحديث :الأربعاء - 10 ديسمبر 2025 - 04:26 م

كتابات


قيادة الجنوب برئاسة الزبيدي: قراءة استراتيجية لتحولات المشهد السياسي

الأربعاء - 10 ديسمبر 2025 - 03:09 م بتوقيت عدن

قيادة الجنوب برئاسة الزبيدي: قراءة استراتيجية لتحولات المشهد السياسي

كتب / د. أمين العلياني

في غمار التحولات العاصفة التي تجتاح الساحة اليمنية - جنوبًا محررًا وشمالًا محتلًا- والإقليمية والدولية، حيث تتدافع الوقائع وتتشابك المصالح، تبرز قيادة الجنوب في نضجها الاستراتيجي وبصيرتها الثاقبة برئاسة القائد عيدروس بن قاسم الزبيدي رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي والقائد الأعلى للقوات المسلحة الجنوبية، بمثابة ربان ماهر يقود سفينة الجنوب في بحر من الأمواج المتلاطمة، لا بالصراخ والانفعال، بل ببوصلة استراتيجية ناضجة وبصيرة سياسية ثاقبة؛ هذا النضج لم يكن وليد الصدفة، بل هو نتاج رحلة كفاحية ونضالية طويلة، واختبار مرير لمعادن الرجال، وفهم عميق لطبائع النظم السياسية ولغة المصالح الدولية والإقليمية وقراءتها قراءة واقعية واستشرافية.


إن قدرة قيادة الجنوب برئاسة الرئيس الزبيدي على قراءة المستجدات السياسية المعقدة، واستخلاص الدلالات العميقة من بين ثنايا الأحداث، هي جوهر تفوقها اليوم وإعدادها لمستقبل الجنوب ونيل الاستحقاقات المنتظرة لشعبه الذي فوضه في التعبير عن تطلعاته وكان الوعد الذي لا يخون والعهد الذي لا ينقض وهو عهد الرجال للرجال المرسوم بالذاكرة الجمعية الجنوبية.


لقد كانت الصورة الأولى في مشهد النضج، ذلك الاجتماع المهم في الرياض بين سفراء الدول الخارجية ورئيس المجلس الرئاسي التوافقي ومعه تكتل الأحزاب الكرتونية محاولين تأليب رأي العالم الدولي والإقليمي ضد رغبة شعب الجنوب، لعلهم يفلحوا في انتزاع قرار يدين الانتقالي على خطواته الواقعية في إصلاح الوضع المختل في جسد الشرعية نفسها؛ فالتحليل المدقق لهذا اللقاء يكشف أنه تجاوز الشكليات إلى لب الرسالة السياسية؛ فغياب أي إدانة لخطوات المجلس الانتقالي الجنوبي الجريئة، التي سدّت فراغًا مؤسسيًّا خطيرًا واصلاحًا لواقع مختل، لم يكن صمتًا عابرًا، بل كان في حقيقته مباركة ضمنية وإقرارًا إجرائيًّا بإيجابية تلك الخطوات. لقد فهمت قيادة الجنوب، بحنكة الزبيدي، أن العالم الدولي والإقليمي يتحدث بلغة الفاعلية والواقع لا بمجرد الخطابات من الغرف المغلقة؛ فعجز رئيس المجلس الرئاسي التوافقي، وتمويله للفوضى، والإخلال الجسيم بمبدأ التوافق الذي أفقد محافظات الجنوب استقرارها وشجع على التمرد والتهريب والإرهاب، كلها حقائق لم يعد ممكنًا تجاهلها. والمشهد الساخر الذي ظهر فيه المتمرد عمر بن حبريش وهو يشكر رشاد العليمي على دعمه وموقفه الواضح لدعم تمرده على السلطة المحلية، في الوقت الذي كان بن حبريش يدعو عما يحدث بسبب قيادة العليمي نفسها لتغطية ذلك الدعم السخي للتمرد والاخلال بالاوضاع المستقرة بحضرموت، ولم يكن هذا سوى دليلًا دامغًا على فشل تلك الصيغة وشرعية الخطوات التصحيحية الجنوبية لتلك الأوضاع وطرد التمرد والقضاء على الإرهاب والتهريب.


لقد قرأت قيادة المجلس الانتقالي الجنوبي هذه الإشارات الدولية والإقليمية الذكية، ووعتها، وتحركت ضمن هامشها دون تردد أو خوف.


أما الصورة الثانية، الأكثر اتساعًا وإطلاقية، فهي زيارة الوفد السعودي الرفيع إلى طهران، والتأكيد المشترك على أن الحل في اليمن سيكون سياسيًا وعلى وفق الأطراف الفاعلة على. الأرض؛ هذه العبارة، في قاموس السياسة الواقعية، هي إعلان نهاية عصر وبداية عصر جديد. إنها تعني، بلا مواربة، أن راكة الحرب قد رُفعت رسميًّا بموجب اتفاق إقليمي ودولي شامل، وأن الساحة قد أُعدت لمعركة جديدة: معركة الدبلوماسية والمفاوضات وترسيم خرائط النفوذ المستقبلية على فاعلية الأطراف الفاعلة على الارض، وها هي قيادة الجنوب برئاسة الزبيدي، مرة أخرى، تسبق الجميع في فهم هذه المعادلة الجديدة وتكشفت دلالاتها في خطاب الزبيدي نفسه في مخرجات لقاءه امس بقيادات المجلس ودعوته لشعبه دون استثناء بالاستعداد لاستحقاقاته، فهي لا تنتظر من يُبلِغها بالقرار، بل تبني مؤسساتها وتُرسخ وجودها وتُحكم سيطرتها على أرض الواقع، لتدخل إلى طاولة المستقبل وهي في موقع القوة والمبادرة، لا موقع الالتماس والانتظار.


وفي هذا السياق، تأتي تصريحات رئيس مجلس النواب والفريق الركن طارق صالج وسلطان العرادة، التي ركزت على أن "حربنا مع الحوثيين ووجهتنا صنعاء وليس على الجنوب. وهذه التصريحات، رغم ما تحمله من حسابات تحالفية مرحلية، فإن قيادة الجنوب الواعية تتعامل معها بمنطق النضج ذاته، فهي تفهم أنها موجهة أساسًا لتهدئة خواطر البسطاء في الشمال، وتفكيك أي حجة تحريضية قد تستخدمها المليشيا الحوثية. ولكن الأهم، أنها تدرك أن هذه الخطابات تعزز، في جوهرها، حق الجنوب الطبيعي في حكم أرضه والتمثيل عن تطلعات شعبه؛ فمنطق التاريخ والواقع يقول: إذا كان أولئك القادة يصرحون بأن وجهتهم صنعاء، فهذا يعني، ضمنًا وصراحة، أن الجنوب الذي حرر أرضه بدماء أبنائه، له الحق الكامل في تقرير مصيره وإدارة شؤونه؛ إنها قراءة ذكية تحول كلام الآخرين إلى تأكيد لحقوق الجنوب، دون الدخول في صدامات لفظية عقيمة.


بايجاز هادف؛ فالنضج الاستراتيجي لقيادة الجنوب بقيادة الرئيس عيدروس الزبيدي، يتجلى في هذه المرحلة الفاصلة من خلال ثلاث كفاءات رئيسة: القدرة على تفسير الصمت الدولي وتحويله إلى مساحة للمناورة والبناء من جهة والقدرة على استشراف التحولات الإقليمية الكبرى والاستعداد لها قبل وقوعها من جهة ثانية وأخيرًا، القدرة على تحويل خطابات الآخرين، حتى تلك التي تبدو موجهة للداخل، إلى سندٍ ضمني لمشروعية حق شعب الجنوب في استعادة دولته كاملة السيادة؛ هذا النضج هو السلاح الأقوى في ترسانة الجنوب اليوم، وهو الذي يؤهله لكتابة فصله الخاص في مستقبل الجنوب العربي الفيدرالي، بثبات الواثقين وبصيرة العارفين؛ فالجنوب، بقضيته العادلة وقيادته الناضجة، لم يعد طرفًا يُدير الأزمات، بل أصبح صانعًا للمستقبل بقوة الحق وإرادة الشعب وحكمة القادة.