ليس خافيًا على أحد أن طريق استعادة الدولة الجنوبية ليس مفروشًا بالورود، وإن الإقدام على اتخاذ قرار إعلان قيام الدولة الجنوبية المستقلة، وخصوصًا من قبل القيادة الجنوبية ممثلة بالمجلس الانتقالي الجنوبي، ليس قرارًا سهلًا أو عابرًا. فهو قرار مصيري بحجم التاريخ، ينطوي على تحولات استراتيجية عميقة ستطال حياة شعب الجنوب ومستقبله السياسي والجيوسياسي، وتنقله من واقع الهيمنة والسيطرة الشمالية إلى واقع الدولة الجنوبية الحرة والمستقلة، دولة مكتملة السيادة تمتلك مقوماتها السياسية والأمنية والاقتصادية، بعيدًا عن الوصايات الوحدوية القسرية التي فُرضت على شعب الجنوب عقب حرب صيف 1994م.
تلك الحرب لم تنهِ فقط ما سُمِّي بالوحدة، بل أعلنت عمليًا وفاتها، بعدما تم إقصاء الجنوب كليًا من معادلات الحكم، وتهميش أبنائه سياسيًا وعسكريًا وأمنيًا واقتصاديًا ووظيفيًا، بل وحتى في المجالات الرياضية والثقافية والصحية التي لم تسلم هي الأخرى من عبث نظام صنعاء.
وتحول الجنوب نتيجة لذلك إلى أرض مستباحة، وجغرافيا منهوبة، وغنيمة حرب تم تقاسمها بين القوى التي شاركت في احتلاله، في ظل نظام صنعاء الذي تعامل مع الجنوب باعتباره ساحة مفتوحة للنهب والإقصاء، لا وطنًا له شعب وحقوق.
إن الانتقال الشامل من هذا الواقع المفروض قسرًا إلى واقع الدولة الجنوبية المستقلة لا يمكن أن يمر دون تحديات جسيمة ومخاطر حقيقية، فكل قرار تاريخي بحجم إعلان الدولة لا بد أن يكون محفوفًا بالمخاطر والتحديات والعقبات، لكنه في الوقت ذاته يظل خيارًا لا غنى عنه إن كان الهدف هو إنصاف شعب الجنوب واستعادة كرامته وحقوقه المصادرة.
ماذا يعني التراجع عن قرار قيام الدولة الجنوبية ؟
إن التراجع عن اتخاذ قرار إعلان قيام الدولة الجنوبية سيشكل انتكاسة خطيرة للمشروع الوطني الجنوبي، وسيعيد القضية الجنوبية خطوات واسعة إلى الخلف، وربما إلى نقطة الصفر. والأخطر من ذلك، أنه سيُحدث شرخًا عميقًا في العلاقة بين المجلس الانتقالي الجنوبي وجماهير الشعب الجنوبي، تلك الجماهير التي بدأت تستعيد ثقتها بقيادتها بعد سنوات من التآكل والارتباك السياسي.
لقد دفع المجلس الانتقالي ثمناً باهظاً جراء انخراطه في شراكات سياسية مع نظام الاحتلال، وفي مقدمتها ما ترتب على اتفاق الرياض، الذي اعتبره كثير من الجنوبيين انتكاسة حقيقية لمسار الثورة الجنوبية، وأحد أبرز أسباب تراجع شعبية المجلس واتساع دائرة الشك والريبة تجاه مواقف بعض قياداته، خاصة في ظل تعارض تلك الشراكات مع مبادئ وقيم وأهداف الثورة التحررية الجنوبية التي لا تعترف بشرعية نظام احتلال صادر كرامة أبناء الجنوب ونهب ثرواتهم وحرمهم من أبسط حقوقهم.
هذا النظام دمّر مقومات الحياة اليومية للجنوبيين، وحرمهم من الخدمات، وأقصاهم من الوظيفة العامة، وجعلهم غرباء في أرضهم، بينما استأثرت القوى الشمالية بكل مفاصل الحياة في الجنوب، في مشهد لا يمت للعدالة ولا للمواطنة بصلة.
غير أن التطورات الأخيرة، والانتصارات العسكرية التي حققتها القوات المسلحة الجنوبية، أسهمت في إعادة الاعتبار للقضية الجنوبية ورفعت من قيمة أسهم المجلس الأنتقالي في أوساط الجماهير الجنوبية ، وأعادت ترتيب المشهد بما ينسجم ويتناغم مع تطلعات وأماني الشعب الجنوبي، ورفعتها مجددًا إلى صدارة الأحداث، ودفعتها نحو مسارها الصحيح، بوصفها قضية شعب يناضل من أجل استعادة دولته وهويته المفقودة.
لقد بلغت حالة الثقة والاحترام المتبادل بين المجلس الانتقالي والشعب الجنوبي ذروتها اليوم، بفعل هذا الصمود وهذه الإنجازات، وبات الشارع الجنوبي، المرابط في ميادين الاعتصام والجاهزية، ينتظر اللحظة الفارقة: إعلان قيام دولته الجنوبية المستقلة. وأي تراجع عن هذه اللحظة لن يُفهم إلا بوصفه خذلانًا لتضحيات جسام، وتفريطًا بفرصة تاريخية قد لا تتكرر وقد لا نجد نظير لها.
إنها لحظة حسم، لا تحتمل التردد، ولا تسمح بالعودة إلى الوراء.