يعاني الخطاب السياسي اليمني الرسمي، وحتى المعارض من أزمة مستفحلة هي انعكاس لأزمة أخرى هي أزمة الفكر السياسي الذي تهيمن عليه الشيخوخة السياسية الكاسحة والمزمنة والمتمثلة في العجز عن التجديد والتجدد وعدم القابلية للإبداع والابتكار والبحث الخلاق عن حلول مبدعة تستجيب للتحديات الجديدة السياسية والاقتصادية الاجتماعية والعلمية التكنولوجية وحتى المعيشية للسكان الذين يفترض أنهم ذات وموضوع الممارسة والخطاب السياسيين في هذا البلد وفي كل بلد، وبما يتلاءم مع المستجدات الداخلية والخارجية وما تفرضه من متطلبات صارمة لا يراها صانع القرار السياسي اليمني ومن حوله منتجي الفكر والخطاب السياسيين المأزومين.
فإذا ما نظرنا إلى مضمون الخطاب السياسي اليمني الراهن نجد أنه ومنذ العاصفة التي جرت منذ نحو عقد نصف -كي لا أتطرق لأحداث العقد الأخير من القرن العشرين والمقصود هنا حرب العدوان على الجنوب وتداعياتها المدمرة- أقول إنه رغم كل التحولات العاصفة فإن الخطاب السياسي اليمني قد توقف عند مفردات شاخت وتقادم بها الزمن وأصبحت لكثرة استهلاكها، محل تندُّر وسخرية من قبل العامة من الشعب، بعد أن جرى تحويلها إلى ما يشبه التُحف اللغوية التي لم تعد تعني للمتلقي الواعي سوى ما يرتبط بها من ذكريات انقضى زمنها منذ عقود.
ولأن الحديث في هذه القضية يستدعي وقفات عديدة ومطولة فإنني سأكتفي بالتعرض لمؤشرين يدللان على استفحال هذه الأزمة في الخطاب السياسي اليمني وهما:
1. العجز شبه الكلي عن استكشاف عوامل وأسباب وخلفيات المشكلات المستعصية التي يعيشها البلد، ولا أقول التنبؤ بظهور هذه المشكلات، فذلك أبعد بكثير مما يستطيع عليه هذا الفكر السياسي الشائخ وما يرافقه من خطاب سياسي يعيش نفس الشيخوخة.
فمثلاً حينما بدأت حالة التململ الجنوبي في منتصف التسعينات من القرن الماضي، والدعوة إلى إصلاح مسار الوحدة وإزالة آثار حرب 1994م وإجراء مصالحة وطنية شاملة، والتي بدأت في إطار الحزب الاشتراكي اليمني،ثم انتقلت إلى الشارع السياسي الجنوبي، لم يقرأ الحكام ومفكروهم السياسيون خلفيات هذه المطالبة وما تعبر عنه من تململ سياسي وشعبي واضح يعبر عن الرفض للوصع الذي أنتجته الحرب العدوانية، هذا التململ الذي لم يلبث أن تحول إلى ثورة جنوبية عارمة، عبرت عن بلوغ الغضب الشعبي ذروته، لكن الخطاب السياسي الرسمي ظل واقفاً عن مفردات "المؤامرة"، "الحنين إلى الماضي"، "العمالة للخارج"، "تهديد وحدة الوطن"، "التمرد على الشرعية"، "فقدان المصالح" وغيرها من المفردات المطاطة التي لا تعبر فقط عن الغرور والاستعلاء السياسيين والاستسلام لنشوة النصر، بل وعن حالة من الشيخوخة في النهج السياسي الذي ينتج هذا الخطاب السياسي البائس؛ وحينما عجز الفكر السياسي عن ابتكار الحلول الواقعية لجذر المشكلة لجأ إلى لغة السلاح وخوض الحرب على المواطنين وانتهى كل هذا بتسليم محافظة أبين لداعش وعدن ومحيطها للجماعة الحوثية، بعد أن سلمها كامل مساحة الجمهورية العربية اليمنية (السابقة).
وما ينطبق على ثورة الحراك الجنوبي السلمي، ينطبق على المطالب الشعبية في الشمال التي بدأت بمطالب معيشية ثم انتقلت إلى المسيرات والاعتصامات الشعبية التي تحولت إلى ما اصطلح على تسميته بـ"الثورة الشبابية السلمية"، والتي يعلم الجميع نوع الخطاب السياسي العدواني تجاهها وكيف انتقم النظام من القائمين وعليها وأين وصلت تداعيات هذا النهج والخطاب السياسيين البائسين.
2. تنعكس أزمة الشيخوخة السياسية في افتقار القاموس السياسي للمفردات المتجددة ذات الصلة بالمتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، وخصوصا تلك المتغيرات المتصلة بحياة الناس وحقوقهم وعزتهم ومعيشتهم الكريمة، ناهيك عن قضايا التنمية والنهوض الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي الذي أصبح اليوم موضوع تنافس وتسابق جميع الدول بما في ذلك دول كانت أقل مستوى من مستوى اليمن وأكثر فقراً وتخلفا منها.
فحينما يعجز السياسي والإعلامي اليمني عن مواجهة تلك التحديات والبحث عن جذورها الحقيقية والكامنة في ما يعانيه الناس من عذابات ومعانات، وحرمان، يلوذ بقاموس ما يعتقد أنها مقدسات، يتصور أنه يفحم بها من يخالفه الموقف ، فتراه يتحدث عن "الوحدة اليمنية" و"حدة الأرض والإنسان"، "النظام الجمهوري"، "الديمقراطية"، "الثورة المجيدة"، "أرض الحضارات"، "أصل العرب"، وغيرها من المفردات، التي لها معاني محددة لكنها تستخدم هنا للتغطية على الفشل السياسي وللهروب من التحديات العملية القائمة في مواجهة الحاكم السياسي ومفكريه وإعلامييه وخطابهم السياسي.
فإذا ما أخذنا مثلا ذلك الخطاب السياسي المأزوم الذي تلى أحداث حضرموت والمهرة خلال الاسبوعين الأخيرين لاكتشفنا كم هي المتناقضات التي يحتويها هذا الخطاب، حيث ضج الإعلام الرسمي ومعه الإعلام المهاجر في إسطنبول وغيرها بالحديث عما يهدد "وحدة الوطن" والتخويف من "تمزيق الوطن" ومن "الانتقال إلى مربع العنف" ومن "مخاطر انزلاق البلد نحو التمزق والتفكك" وكأن صانعي هذا الخطاب يخاطبون فضاءً خارجيا لا يعلم أهله أن هذه المفردات التي يحذرون منها هي قائمة ومنذ عقود، فالوطن ممزق، والحرب قائمة، والتفكيك قائم بنجاح و"وحدة الوطن" قد ماتت قبل 3 عقود والعنف لم يدع بقعةً في اليمن لم يصل إليها، ويعلم هؤلاء أن موضوع الخلاف كان وجود قوات المنطقة العسكرية الأولى الموالية للحوثيين في تلك المساحة موضوع الحديث، ولو أن صانع القرار السياسي عالج تلك المسألة بقرار سياسي لا يستهلك صفحة واحدة من الورق، لاستغنى عن كل هذا الضجيج والصخب والنواح والعويل، لكن الساسة يهربون من معالجة جذر المشكلة إلى المفردات الزئبقية التي مل المواطن سماعها لأنه يعلم أن من يدَّعون تقديسها قد دنسوها بتصرفاتهم ومواقفهم البائسة.
وخلاصة الكلام إن الفكر السياسي المأزوم يصنع خطاباً سياسياً مأزوماً، وبالتلازم معه نهجاً سياسياً تلاحقه الأزمات في جميع مواقفه وقراراته السياسية، وهو ما يوسع الفجوة بين الشعب والحاكم، ويدفع البلاد إما باتجاه التغيير الجذري حينما يعيد الحاكم مراجعة نهجه السياسي أو يغادر المشهد الذي عجز عن معالجة تعقيداته، أو إلى الانهيار الشامل حينما ينظر الحاكم ومن يحيط به من مستشاري السوء إلى شعبهم على إنه عبارة عن مجموعة من أعداء الوطن والمتآمرين عليه والعملاء للخارج، وغير ذلك من المسميات التي يبتكرها الحاكم الفاشل الذي يرى نفسه هو الوطن، أو أن الوطن ملك من أملاكه وحده.