آخر تحديث :الجمعة - 05 ديسمبر 2025 - 12:54 م

كتابات واقلام


على أعتاب الثلاثين من نوفمبر

الخميس - 27 نوفمبر 2025 - الساعة 10:11 م

د. عيدروس نصر ناصر
بقلم: د. عيدروس نصر ناصر - ارشيف الكاتب


ها نحن مرة أخرى على مشارف الاحتفاء بالذكرى الثامنة والخمسين للثلاثين من نوفمبر العظيم بما يحمله الحدث من رمزية وطنية مثلت ذات يوم انعطافاً تاريخياً في مسار النضال الوطني الجنوبي ضد الاستعمار والاستغلال والتبعية، وفي سبيل الحرية والكرامة والرقي الإنساني.
وفي الحقيقة إنه وبعد التجريف الثقافي والقيمي والتربوي والأخلاقي الذي تعرض له الجنوب على مدى أكثر من ثلاثة عقود، صار من المألوف أن نسمع ونرى من يتهجم على هذا التاريخ العظيم وعلى تضحيات الشهداء ونضالات الشعب الجنوبي والسخرية من مجمل العملية الثورية الجنوبية التي تمتد جذورها إلى عشرات السنين ما قبل الرابع عشر من أوكتوبر والثلاثين من نوفمبر، فصرنا نسمع بعض حديثي الإمساك بالقلم ممن يتهجم على رجالات الثورة الأكتوبرية والاستقلال النوفمبري العظيمين وشهدائهما وصانعيهما بألفاظ الإتهام التشهير والازدراء والشيطنة، وكل ما يمكن أن يقوله العدو السفيه عن عدوه، وللأسف من بين هؤلاء ممن كانوا محسوبين ذات يوم من تلاميذ المدرسة الأكتوبرية العظيمة، لكننا نتفهم إنه وفي زمن اختلاط المعايير وفقدان الضوابط الأخلاقية والروادع الوطنية وتفشي ظاهرة اللصوصية السياسية والثقافة الانتهازية يصبح بإمكان اللص أن يتهجم على الشرفاء والدنيء أن يتهم ذوي الأخلاق الفاضلة والجاهل أن يسفه رجال العلم والحكمة والفاسد أن يشيطن النزيهين وذوي الضمائر الحية والمواقف الإنسانية الواضحة وضوح الشمس والجبان أن يسخر بأشجع الناس وأكثرهم بسالةً وتضحيةً في سبيل الوطن.
* * *
وكما في كل عام سيتحدث رئيس مجلس القيادة أو أحد نوابه عن ثلاثين نوفمبر التي لا يرتبط بها إلا برابطة العداء والبغضاء وسيقول كلاماً كثيراً وربما جميلاً عن عظمة نضال الشعب اليمني في صناعة هذه المناسبة، وقد يتناول بعض أسماء الشهداء، وسيقول ويقول ويقول، لكن كلامه يظلُّ كلاماً باهتاً بارداً سمجاً ومملاً من ذلك الذي سمعناه عشرات المرات، والذي يقوله أصحابه من أبراجهم العاجية، معزولين عن حياة الناس ومعاناتهم وآلامهم وعذاباتهم وعن معاني التضحية وأهداف النضال، وفي ظل افتقاد الكثير من أبناء هذا الشعب بمن فيهم أبناء وأحفاد مناضليه إلى ما يسدون به رمقهم من الجوع والعطش والمرض والأوبئة والضياع المستقبلي الذي يصنعه هؤلاء الخطباء المملُّون.
* * *
حينما ثار شعبنا الجنوبي ضد الاستعمار البريطاني، كانت الحرية والكرامة والعزة والنهوض المعيشي والتنموي والتربوي والعلمي هي العناوين الرئيسية للثورة، وبعد تحقيق الاستقلال وبرغم ضخامة التحدي وشحة الإمكانيات ومحدودية الموارد وسخونة الحملات العدائية والحصار الاقتصادي والإعلامي ضد الجمهورية الجديدة، بقيت تلك العناوين هي الأكثر حضوراً في أجندة الدولة الوليدة وقيادتها وتمثل حضور تلك العناوين عبر إجراءات وسياسات عملية حصدها الأهالي من خلال التغيرات المعيشية والخدمية والتعليمية والتنموية التي عاشوها وانتقلوا بفضلها من حياة الفقر والجوع والتشرد والجهل والمرض والاحتراب الداخلي إلى حياة العزة والكرامة والسلام والتآخي والاستقرار والنهوض المعيشي والتعليمي والتربوي والصحي والأمني والتنموي، وتلك أمور عاشها المواطن الجنوبي في الريف والمدينة على مدى ما يقارب ربع قرن من التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية في بنية المجتمع.
* * *
اليوم وبعد 58 عاماً على تحقيق الاستقلال وإعلان الدولة الجنوبية، وبعد 31 عاماً على وأد هذه الدولة، يبرزُ السؤال للقائمين على شؤون الناس في محافظات هذه الدولة الجنوبية الموؤودة: ما معنى الاحتفاء بهذه الذكرى العظيمة بعد تغييب كل منجزاتها الكبيرة والصغيرة وتدمير كل معانيها المادية والمعنوية؟ وما هو شعوركم وأنتم ترون الجوعي والمرضى وضحايا الأوبئة وجرحى حروبكم وكل المواطنين يفتقدون إلى أبسط شروط الحياة الآدمية؟ بماذا تشعرون وموظفوكم وجنودكم وحراساتكم لم يتقاضوا مرتباتهم على تفاهتها منذ أشهر عدة، وأهاليهم يتضورون جوعا وعطشاً؟ ماذا ستقولون لهم؟ هل ستعدونهم كما سبق وأن وعدتموهم عشرات المرات بوعودٍ ورديةٍ لم تنفذوا منها أقلها شأناً؟ أم إنكم ستقولون لهم إن الحفاظ على الشرعية ونصرتها أهم من الماء والكهرباء والغذاء والدواء والضوء والتنفس والأمان والاستقرار؟
* * *
يقول الشاعر العربي الكبير نزار قباني على لسان ديكتاتورٍ عربي:
كلَّما فكَّرت أن أعتزلَ السلطةَ
ينهاني ضميري..
من ترى يحكم بعدي هؤلاء الطيبين؟
من سيشفي بعدي الأعرج..
والأبرص..
والأعمى..
ومن يحيي عظام الميتين؟
من ترى يخرج من معطفه ضوء القمر؟
من ترى يرسل للناس المطر؟
من ترى يجلدهم تسعين جلدة؟
من ترى يصلبهم فوق الشجر؟
من ترى يرغمهم
أن يعيشوا كالبقر؟
ويموتوا كالبقر؟..

كلما فكرت أن أتركهم..
فاضت دموعي كغمــــامة..
وتوكَّلت على الله..
وقررت بأن أحكم الشعب..
من الآن الى يوم القيامة...