آخر تحديث :الإثنين - 15 ديسمبر 2025 - 10:45 ص

كتابات واقلام


وداعا دكتورنا الحبيب يعقوب عبدالله قاسم

الخميس - 28 أكتوبر 2021 - الساعة 12:35 ص

د. معن عبدالباري قاسم
بقلم: د. معن عبدالباري قاسم - ارشيف الكاتب



وداعا دكتورنا الحبيب يعقوب عبدالله قاسم أخا ومعلما ونموذجا قياديا فذاً

"الصداقة الحقيقية كالصحة الجيدة قلما تعرف قيمتها إلابعد فقدانها"
جون كولتون

"يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي" صدق الله العظيم.
مر أربعون يوماً منذ صبحية يوم الاحد الموافق 19 سبتمبر حينما جاءنا الخبر المحزن بوفاة المربي والاكاديمي القدير الزميل والصديق والاخ العزيز د.يعقوب عبدالله قاسم العميد السابق والتاريخي لكلية التربية جامعة عدن.
رحل عنا الاستاذ د. يعقوب بكل هدوء وسكينة تماماً كما عاش بين ظهرانينا ودوداً رقيقاً مهذباً، متعاوناً ومحباً للخير ونشر العلم ودعم محبيه اينما كانوا وكيفما استطاع.
في ذكرى تأبين وفاته هذه لن أستعرض هنا سيرة حياته فأعتقد ان تلك المهمة سيتفرغ لتدوينها زملاءه في الاختصاص ومن كانوا أكثر قرباً واتصالا فيما يخص الجانب المهني، وأتوقع أن يورد لنا اقرباءه تفاصيل نشأته وحياته الشخصية والاسرية.
لكن ما سأحرص على اختصاره في هذه السطور المتواضعة بحق فقدنا لمثل هذه القامة العلمية والتربوية والاخلاقية والاجتماعية – ضاربة الجذور لقرابة نصف قرن في مدينة وجامعة عدن – ماتيسر لي من أستذكاره من تلك السويعات والايام والسنوات الجميلة التي تخلدت في الذاكرة لمحطات تعارفنا ومشاركتنا للعديد من القضايا المهنية التي وجدنا انفسنا فيها سوية على دروب ورؤى متقاربة جداً.
المحطة الاولى: كان تعارفي الاول مع العزيز د.يعقوب في خريف العام 1987 عندما قدم الى مدينة بطرسبرغ في روسيا (لينينجراد أنذاك) في زيارة تفرغ بحث علمي لمدة عام.. حينها كنت في عامي الاخير بماجستير علم النفس السريري في جامعة بطرسبرغ ( كلية علم النفس).
كانت زيارة التعارف الاولى بمعية الزملاء من جامعة بطرسبورج محمد عوض وصالح عوض وعلي الزغير الى شقة د. يعقوب في سكن جامعة (جيرتسن) للعلوم التربوية والمخصصة للاساتذه وطلاب الدراسات العليا.
منذ اللقاء الاول يعطيك د. يعقوب ذلك الانطباع بالدفىء والحميمية ما يمنحك الثقة والسكينة والالفة.. وتلك لعيني خاصية فريدة في زمن الصداقة النادر هذا.
تحدثنا في ذلك اللقاء عن عن ذكريات أيامه المبكرة في الدراسة وعن قصص جيل الاوائل لمن قدموا للدراسة في الاتحاد السوفيتي، لينتقل بنا الحديث الى الاختصاص وهموم الدراسة وتوجهاتنا لما بعد التخرج والعودة للوطن والاسهام في مواصلة البناء والتغيير والتطوير ( ضمن جرعة مفرطة من أحلام اليقظة التي كانت شائعة لدينا أنذاك وللاسف حلقت بنا في فضاء اللاواقعية الصادمة فيما تعاقبت الاحداث بعده سواء في وطننا أو العالم).
رغم ذلك كان ملفتاً للنظر بالنسبة لي روحه النقدية الهادئة والمتزنة في تناول وتقييم التجربة التاريخية الثورية في اليمن الديموقراطي وهو قل ما تجده أنذاك من العقول المثقفة ذات البصيرة النافدة للتناول الحصيف الناضج والمتوازن للاحداث.
المحطة الثانية: بعد التخرج والعودة الى عدن صيف 1988 كان د. يعقوب محثا و مشجعاً وداعما شخصياً ومقنعاً لي للمشاركة في العملية التدريسية بقسم علم النفس بكلية التربية التي كان عميدها وعرفني بالزملاء الاعزاء بالقسم انذاك - الرحمة على من توفى منهم وامدهم بالصحة والعافية من هم على قيد الحياة - وأخص منهم هنا ( الاستاذ على فخري، د.عبيد بن رعود، على بامنصور،...) ورغم ان فترة تدريسي بالقسم كانت قصيرة لمدة فصل دراسي واحد فقط نظرا لالتحاقي بوظيفة رسمية كأخصائي نفسي سريري في مستشفى الامراض النفسية التعليمي الا انني لن انسى تلك الايام الذي حظيت بها بترحيب كلي من استاذنا يعقوب والسماح بمراجعة مكتبه بكل تواضع وبساطة كلما كان في الامر حاجة .
المحطة الثالثة: بعد عام تقريبا وفي مايو تحديدا من العام 1989 تقدمت ضمن حوالي عشرة متقدمين للمسابقة على وظيفة معيد بقسم علم النفس الاكلينيكي بكلية الطب، كان ضمن الشروط ان تكون هناك توصية من جهة عمل أو شخص على معرفة مهنية بالتقدم. لم اجد أفضل من أستاذنا العظيم برفسور يعقوب ليكون مرجعي، وحالما راجعته في مكتبة طالباً لتوصية واذا به يغادر كرسية ويدعوني للتحرك بسيارتي الى مكتب عميد الكلية ولن انسى ذلك اليوم وماحدث به ماحييت، فما دار به من حوار مع عميد كلية الطب الاستاذ الدكتور على يافعي أطال الله في عمره أنذاك بشان التعريف والتوصية مازال عالقا بالذاكرة وكانه اليوم ، واعتقد انه وبهذه المناسبة العزيزة لتذكر فقيدنا الغالي يعقوب بعد ان فاضت روحه الى باريها اصبح بفعل الاستحقاق الاخلاقي والامانة في توثيق ونشر بعض من شريط الذكريات المخزنة تلك والمشحونة بكم العاطفة الجياشة لذلك الزمن الجميل، فأنني أتذكر ما قاله بالنص د. يعقوب محدثاً عميد كلية الطب: "اذا سألت عن معن مهنياً وعلمياً فعليك بمراجعة شهاداته ومؤهلاته، والتقييم يعود لكم بما ترونه بالمقارنه مع بقية زملاءه فهذه معايير مهنية تطبق على الجميع ولانقاش فيها. اما اذا سألتني عن معن كشخص واخلاق..الخ فأعتبره د.يعقوب الذي امامك بنسخة شابة".
أغِرورقت عيني بالدموع والفخر والحب والود وكأنه أخاً أكبر لم تلده أمي، صلة وفكر وإنتماء قل ما تسمعه أو يروى عنه في الحكايات والقصص المثالية للصداقة الفذة. هكذا كان كذلك د. يعقوب مع من يحبهم ويقدرهم اخاً وأباً ومعلماً نصيراً للجميع.
المحطة الرابعة: منذ العام 1988 سعت القيادة السياسية في عدن انذاك وحتى عشية الوحدة مع صنعاء الي تبني مشروع الاصلاح السياسي والاقتصادي في عدن مسايرة لما كان يجري من سياسة الاصلاح في الاتحاد السوفيتي (أوما سمى انذاك بالبريسترويكا-إعادة البناء) وما أحب ان الفت الاهتمام اليه هنا هو التوجه والتشجيع لتعزيز البناء المؤسسي للمجتمع المدني من خلال اشهار الجمعيات غير الحكومية. أذكر على سبيل المثال في حقل الاختصاص نجاحنا والزميل د. حسن قاسم من كلية الطب وبقية الزملاء من مستشفى الامراض النفسية بعدن ومصلحة السجون ووزارة الاعلام وكلية التربية من إشهار الجمعية النفسية اليمنية في 17 مايو 1990 بكلية الطب عدن ( قبل أربع أيام من الوحدة) كذلك الحال تشاركنا ومن خلال التواصل القائم مع د. يعقوب بكلية التربية كمنطلق لتشكيل جمعية حماية البيئة وكان انذاك الاستاذ د. حمود العودي أطال الله في عمره رئيساً لقسم علم الاجتماع ولديه اهتمامات في دور المجتمع والجماعات السكانية في التأثير للحفاط على البيئة وتنادي عن مجلس حماية البيئة في مجلس الوزراء انذاك الاستاذ د. خالد حريري رحمه الله عليه وعن مستشفى الجمهورية التعليمي طبيب التخدير والناشط في الحقوق المدنية د. عبدالصمد الحكيمي واستاذ د. عبده سعيد رحمة الله عليه عميد كلية الزراعة وتحت مظلة كلية التربية وبدعم وحماسة وتأييد وتشجيع من د. يعقوب تواصلت اللقاءات لتحفيز قيام الجمعية حتى تحقق ذلك بأشهارها قبل الوحدة بفترة وجيزة.
المحطة الخامسة : تصادفت أني ود. يعقوب مجدداً عدنا الى مدينة بطرسبرغ في العالم 1994 حيث كنت اكمل استعداداتي للعام الاخير لنيل الدكتوراه في علم النفس و د. يعقوب كان متواجداً في سنة بحثية أكاديمية، وشاءت الاقدار هذه المرة ان نسكن سوية في عمارة واحدة ( كانت مخصصة سابقاً للكوادر العسكرية المبعثة للدراسة من جمهورية اليمن الديمقراطي ونظراً لاستمرارية الاتفاقية وعدم الابتعاث للكوادر العسكرية بعد الوحدة فقد سمح لطلاب الجامعات من اليمنيين في بطرسبرغ للسكن فيها). الشاهد في الامر هنا أننا منذ مطلع العام 1994 ورغم اجواء التوتر وقرع طبول الحرب بين صنعاء وعدن كانت غرفة الدكتور يعقوب ورشة عمل وبحث في أليه عمل وتواصل وتنسيق بين زملاء الدراسات العليا من المبتعثين من كل الجامعات اليمنية ( كانو في الاساس انذاك من جامعة عدن، صنعاء و تعز).
وتمكن أستاذنا القدير من تجميع الزملاء في شقته وبحثنا العديد من الافكار والخطوات لتشكيل مجموعة تبادل للباحثين من الجامعات اليمنية لمناقشة العديد من القضايا العلمية من منظور أكاديمي صرف - باذلين قصارى الجهد لتفادي الاحتكاك أو التورط في المشاحنات والمناكفات السياسية - ولعيني هنا ان شخصية د. يعقوب كانت محل أجماع وقبول وترحيب لاخلاف أو شك فيه.
للاسف تدهور الاوضاع بشكل مأساوي بالوطن وعجز القيادات اليمنية تاريخيا عن تغليب النزق الاناني في حب الذات (النرجسية) المفرط في التمسك بالسلطة ومصادر الثروة وتهميش واقصاء الاخر مع عدم التفكيربمستقبل الاجيال وتحقيق الاستقرار والتنمية، أدى في نهاية المطاف الى انطفاء ذلك المشروع كما هي حال الكثير من التجارب والخبرات التي كانت تموت في المهد أو في أحسن الاحوال تضمر وتهمش ويطويها النسيان.
المحطة السادسة :بعد نيل الدكتوراه والعودة الى الوطن في أكتوبر 1995، وجدت في ملتقى الخميس في ديوان نقابة جامعة عدن الذي كان يتربعه د.يعقوب ونخبة من الاصدقاء عطري الذاكرة فسحة وواحة إستظلال رغم كأبة المنظر نتيجة للعواقب المأساوية لحرب 1994 على عدن تحديداً والجنوب عموما.
أستطاع العزيز الحبيب د. يعقوب أن يكون مركز جذب مغناطيسي أسبوعي لنا في ذلك المنتدى بمقر نقابة اعضاء هيئة التدريس بجامعة عدن بمدينة كريتر، والذي جمع فيه نخبة من أساتذة جامعة عدن بمختلف كلياتها وأقسامها العلمية ذات التوجه للعلوم الطبيعة أو الانسانية واستطاع دكتور يعقوب بحنكته وطول نفسه وتوازنه من ان يجعل من ذلك اللقاء الاسبوعي لتعاطي القات الى تجمع علمي،ثقافين فكري و روحي لتبادل الخبرات والتعبير والتنفيس الاكاديمي الحر وفي نفس الوقت المسؤول والناضج والمبتعد عن المهاترات الصبيانية المراهقة أوالاستفزازية.
لقد كان بحق د.يعقوب استاذاً ومعلماً سلوكياً يضرب به المثل في نسج العلاقات وتوصيل الرسالة العلمية والاخلاقية بشكلها المطلوب والمقبول ووفقاً لكل مستوى للمتلقي ( بحسب قدرته وفهمه الذكائي المعرفي والعاطفي) وإنها بحق لمهارة قيادية فذه.
المحطة السابعة والاخيرة: مع دخول الالفية والتحولات التي طرأت على روسيا وعودة الاهتمام بالتفاعل مع الجامعات هناك من خلال تشكيل جميعات الصداقة مع الجامعات التي درس بها طلابنا المبتعثين هناك، تحمس نخبة من الاساتذة في جامعة عدن لتشكيل جمعية خريجي روسيا وكان استاذنا القدير د.يعقوب كالعادة مهندساً بارعاً بالعلاقات الاجتماعية والسلوكية لدفع السفينة لمافيه فائدة وخير الجميع.
كانت لنا لقاءات عديدة لتنسيق هذه العملية مع المرحوم الاستاذ القدير د. صالح باصرة رئيس جامعة عدن أنذاك، الذي شجع ورحب بالفكرة وفتح ابواب وإمكانات جامعة عدن لمثل هذه الجمعيات التي يمكن ان تساعد في التطوير المهني لاساتذة ومبتعثي جامعة عدن إلى روسيا، كذلك تواصلت اللقاءات مع قنصل روسيا بعدن وتم تنظيم فعاليات تحضيرية مشتركة وللامانه التاريخية هنا ذكر الدور المتميز لدكتورنا يعقوب فيها وايضاً الزميل المرحوم د. عبدالوهاب شمسان نائب عميد كلية الحقوق أنذاك ود. عمر باناجة من كلية الاقتصاد، د. خلدون عبدالباري قاسم من كلية الطب واستمرت الجهود شهوراً عديدة حتى توَجت بإشهار جمعية خريجي روسيا في جامعة عدن، وتقلًد حينها د.يعقوب رئاستها.
رحمة الله عليك استاذنا وحبيبنا وفقيدنا د.يعقوب القامة والمكانة العلمية الرصينة وذرة مكارم الاخلاق في العزة والعفة والمودة والايثار والاحسان وحب الجميع دون تمييز.
أ.د. معن عبدالباري قاسم
26 -10-2021