آخر تحديث :الجمعة - 26 ديسمبر 2025 - 11:57 ص

كتابات


لماذا يفشل خطاب الوصاية أمام التاريخ الجنوبي؟

الجمعة - 26 ديسمبر 2025 - 11:21 ص بتوقيت عدن

لماذا يفشل خطاب الوصاية أمام التاريخ الجنوبي؟

هاني سالم مسهور



ليست مشكلة الجنوب مع الوصاية مسألة رأي أو زاوية تحليل أو اختلاف في تقدير المصالح، بل مسألة وجود وهوية وصراع عميق بين منطقين متناقضين.


 منطق شعب تشكّلت هويته عبر تراكمات التاريخ، ومنطق قوى ترى في الجغرافيا أداة تحكّم، وفي الشعوب عناصر قابلة للإدارة والتعليق والتأجيل، الجنوب يرفض الوصاية اليوم لا لأنه غاضب، بل لأنه لم يعترف بها يومًا، ولأن تركيبته الإنسانية والثقافية قامت منذ البدء على الانتماء الحر، لا على الخضوع، وعلى الفعل، لا على الانتظار.


الهوية الجنوبية ليست منتجًا سياسيًا معاصرًا، ولا سردية طارئة صُنعت في غرف التنظيم أو بيانات الحركات، بل بنية حضارية عميقة ضاربة في الزمن، تشكّلت قبل الدولة، وقبل الحدود، وقبل أن تتحول "الجغرافيا" إلى ذريعة سياسية تُستخدم لنزع الإرادة عن الشعوب، هذا الإنسان الجنوبي لم يتكوّن في الهامش، بل في قلب التاريخ، في أرض كانت منذ أقدم العصور مهدًا للنجاة والبقاء وإعادة التكوين.


من بعد الطوفان العظيم، كما حفظته الذاكرة الإنسانية والأسطورة والتاريخ، كانت هذه الجغرافيا مسرحًا لتشكّل الإنسان الأول في صراعه مع الطبيعة والقدر والسلطة. هنا قامت إرم، وهنا عبرت عاد وثمود، وهنا امتدت صحراء الأحقاف بوصفها فضاءً للمعنى لا فراغًا مهملًا، لم يكن الجنوب يومًا أرضًا بلا هوية، بل أرضًا سبقت تعريف الهوية ذاتها.


هذا التكوين الحضاري لم ينقطع، ولم يتحول إلى أطلال، بل أعاد إنتاج نفسه عبر العصور، بحر العرب لم يكن حدًا فاصلاً ولا نهاية للعالم، بل بوابة مفتوحة، والخلجان العظيمة لم تكن أطرافًا معزولة، بل شرايين حركة وتبادل، من هذه السواحل خرج الإنسان الجنوبي إلى الشرق والغرب، لا فاتحًا ولا تابعًا ولا مستعمِرًا، بل تاجرًا، وداعية، وباني علاقات، حامل ثقافة لا مشروع سيطرة. ولهذا لم تتشكّل هوية الجنوب في الانغلاق ولا في العزلة، بل في انفتاح واثق لا يذيب الذات ولا يفرّط في الانتماء.


في جذور تريم، حين تراكم العلم واللغة والفقه والوعي، وفي عدن، حيث استقر مسجد العيدروس شاهدًا على التقاء الروح بالتجارة والسياسة والعالم، تبلورت شخصية جنوبية تعرف كيف تجمع بين المقدّس واليومي، بين الإيمان والحياة، بين الثبات والحركة، هذه ليست حكايات تراثية تُستحضر للتزيين، بل مفاتيح لفهم إنسان تشكّلت علاقته بالسلطة والمعنى والعالم على قاعدة الاستقلال الداخلي، ولهذا، حيثما ذهبت في الشرق الآسيوي أو شبه القارة الهندية أو سواحل أفريقيا وأدغالها، ستعثر على أثر حضرمي مرّ أو استقر، أو ستشمّ رائحة البخور العدني، لا بوصفه سلعة فقط، بل بوصفه علامة على حضور إنساني طويل النفس، متجذّر، لا يزول بزوال القوى.


من هذا العمق، يصبح رفض الوصاية اليوم موقفًا طبيعيًا لا يحتاج إلى تبرير، فالإنسان الذي تشكّل عبر آلاف السنين في فضاء مفتوح، وصاغ علاقته بالعالم عبر التفاعل لا الخضوع، لا يمكن اختزاله في معادلة جغرافية باردة، ولا يمكن إقناعه بأن السيادة تُدار من الخارج، أو أن القرار الوطني يُعلّق بانتظار توازنات لا يكون طرفًا في صناعتها.


حين يُطلب من الجنوب اليوم القبول بالوصاية بحجة الجغرافيا أو الجوار أو “الواقعية السياسية”، فإن هذا الطلب ليس قراءة عقلانية للواقع، بل محاولة لإعادة إنتاج الهيمنة بلغة أكثر نعومة. فهذه الجغرافيا ذاتها هي التي قاومت الغزو البرتغالي في القرن السادس عشر، حين حاولت القوى البحرية الأوروبية فرض سيطرتها على الموانئ والممرات، في ذلك الزمن، لم تكن الدولة القومية قد تشكّلت، لكن الوعي الجمعي كان حاضرًا، والقتال كان دفاعًا عن الحق في القرار، لا عن راية عابرة، لم تُطرد الأساطيل بالخطابات، بل بالفعل، وكانت تلك إحدى أولى لحظات الصدام بين الجنوب ومنطق الوصاية الخارجية.


ثم جاء الاستعمار البريطاني، بأدوات أكثر حداثة، وبخطاب يدّعي التنظيم وبناء الدولة، ومع ذلك، لم تنكسر الإرادة، لم يسقط الاستعمار لأن لندن قررت الرحيل فقط، بل لأن شعب هذه الأرض قرر أن الحكم الخارجي، مهما تزيّن بالشعارات، غير قابل للاستمرار، دُفعت فاتورة الاستقلال دمًا ونفيًا ومطاردة، كما هو حال كل الشعوب التي انتزعت حريتها، والشعب الذي أسقط إمبراطورية عالمية لا يمكن أن يُطلب منه اليوم أن يتعايش مع وصاية جديدة تُسوّق باسم الاستقرار أو الجغرافيا.


بعد الاستقلال الأول 1967، لم يدخل الجنوب في سبات تاريخي، بل في مواجهة أشكال جديدة من الوصاية، هذه المرة بأسماء داخلية، وفي عام 1994، حين فُرضت الوحدة بالقوة، لم يكن الجنوب يواجه مشروع شراكة، بل إعادة إنتاج فجة للهيمنة، كانت الدبابات التي دخلت عدن رسالة واضحة.. القرار الجنوبي يجب أن يُصادَر باسم كيان أكبر، ورغم الهزيمة العسكرية في تلك اللحظة، لم تُهزم الفكرة، لأن ما يُفرض بالقوة لا يتحول إلى شرعية، مهما طال الزمن ومهما تبدلت الشعارات.


ثم جاءت الحرب الحوثية، لتكشف جوهر الصراع مرة أخرى، وجد الجنوب نفسه في مواجهة مشروع وصاية مذهبي، انقلابي، عابر للحدود، لا يعترف بالدولة ولا بالمواطنة ولا بالهوية الوطنية، قاتل الجنوب دفاعًا عن أرضه وناسه ومعناه، لا دفاعًا عن دولة كانت قد سقطت فعليًا، ولا عن شعارات استُهلكت، وفي تلك الحرب، قدّم الجنوب الانتصار العسكري الأوضح، ودفع في المقابل أثمانًا بشرية ومادية هائلة، وهنا تتجلى المفارقة الفادحة.. المنتصر يُطالَب بالتريث، وصاحب الأرض يُطلب منه تعليق مشروعه الوطني، بينما تُفتح مسارات التفاهم مع الانقلابيين أو الفاشلين أو من لم يقدّموا سوى الخراب.


هذا المنطق لا يصنع سلامًا ولا استقرارًا، بل يكرّس اختلالًا أخلاقيًا وسياسيًا يقوم على مكافأة الفشل ومعاقبة الفعل، وحين يُقال إن “الجغرافيا هي الحقيقة السياسية الوحيدة”، فإن هذا القول لا يُستخدم لوصف الواقع، بل لتجريد الشعوب من حقها، وتحويل السيادة إلى وظيفة إقليمية، والاستقلال إلى تهمة، والإرادة الشعبية إلى تفصيل يمكن شطبه أو تأجيله.


لكن تجربة الجنوب تقول عكس ذلك تمامًا، فالجغرافيا هنا لم تكن يومًا قيدًا، بل ساحة اختبار، موقع الجنوب على مفاصل التجارة والبحر والصراع جعله في احتكاك دائم مع القوى الكبرى، ومن هذا الاحتكاك تعلّم الإنسان الجنوبي أن من لا يدير موقعه يُدار، ومن لا يمتلك قراره يُستخدم، لذلك لم يكن رفض الوصاية تعبيرًا عن عداء للجوار، ولا خروجًا على الإقليم، بل دفاعًا عن قاعدة أخلاقية بسيطة: لا سيادة بلا إرادة، ولا دولة تُبنى بتعليق القرار الوطني.


رفض الوصاية اليوم ليس نزوة سياسية، ولا مشروع نخبة، ولا حالة عاطفية، ولا "مشروعًا موازيًا" كما يحلو للبعض تسميته، بل استمرار صارم لتقليد تاريخي راسخ، كلما فُرضت الوصاية سقطت، وكلما قُدّمت بوصفها ضرورة انكشفت بوصفها خطرًا، العالم الذي يُطلب منه اليوم فهم الجغرافيا مدعو أولًا إلى فهم التاريخ، لأن الشعوب التي تمرّست في القتال الوطني، وأسقطت استعمارًا، وواجهت غزوًا، لا تُدار بالخرائط وحدها، بل بالاعتراف الصريح بإرادتها وحقها في تقرير مصيرها.


الجنوب لا يطلب إذنًا ليكون، ولا حماية ليبقى، ولا وصاية ليحيا، هو يطرح حقيقة واحدة لا تقبل الالتفاف.. هذه الأرض لها شعب، وهذا الشعب له تاريخ طويل في إسقاط الوصاية، ومن يتجاهل ذلك لا يسيء للجنوب وحده، بل يسيء لفكرة الدولة الوطنية ذاتها، ويحوّل الاستقرار إلى غطاء للهيمنة، والسلام إلى اسم آخر للتجميد.


قد تُفرض الوصاية زمنًا، وقد تُدار الأزمات طويلًا، وقد يُطلب من الشعوب الصبر إلى ما لا نهاية، لكن الشعوب التي اعتادت كسر القيود لا تتعايش معها، وهذه ليست قضية انفصال ولا نزاع حدود ولا ملفًا قابلًا للتدوير، بل قضية شعب يعرف، من تجربته الطويلة، أن الجغرافيا لا تحكمه، ولا تصنع مصيره، بل هو من يمنحها معناها، ويكتب فوقها تاريخه، مهما طال الصراع ومهما تغيّرت الأقنعة.


هاني سالم مسهور


أبوظبي


21 ديسمبر/كانون الأول 2025