آخر تحديث :الأحد - 07 ديسمبر 2025 - 10:19 ص

كتابات واقلام


ميزان العدالة المائل: تهميش الجنوب وأدلجة الأولوية

الإثنين - 29 سبتمبر 2025 - الساعة 01:42 م

حافظ الشجيفي
بقلم: حافظ الشجيفي - ارشيف الكاتب


إن التاريخ ليس مجرد سجل للأحداث، بل هو ميزان يقيس به الحاضر صدقه وزيفه. وفي الساحة السياسية للجنوب العربي، يقف هذا الميزان اليوم محطمًا ومائلًا، لا لقصور في الحقائق او ضعف في الحجج، بل لتعمد في الرؤية السياسية الدولية. حيث تتجاوز المفارقة هنا الغموض لتصل إلى حد الإدهاش أن يتم التعامل مع قضية قومية، ذات جذور عميقة وشرعية مكتملة، كأنها هامش، بينما تُرفع أزمة عارضة إلى مرتبة الأولوية القصوى.
وهنا تكمن القضية الجنوبية، ليس بوصفها مجرد نزاع محلي، بل بوصفها حقيقة ذاتية وموضوعية لا يمكن إنكارها فهي ليست فرضية قابلة للتحليل، بل واقع يرتكز على أساس صلب: فقد كان الجنوب دولة مستقلة وذات سيادة ومعترف بها دوليًا قبل عام 1990. وهذا المنطق القانوني والشرعية الدولية ليست وجهة نظر، بل معطى تاريخي راسخ. والأكثر أهمية هو أنها قضية معمدة بالنضالات والتضحيات، ومدفوعة بإرادة شعبية جازمة، متجاوزة بذلك مجرد البعد القانوني إلى البعد الإنساني والأخلاقي. لتكون قضية عادلة بكل المقاييس، لا تقبل الشك أو الطعن في جوهرها وحقيقتها الماثلة.

وعلى الرغم من هذه المتانة والصلابة والوضوح، يلوح في الأفق موقف دولي يتعمد تجاهل هذه القضية وتهميشها من خلال فعل لا ينبع من جهل، بل من استراتيجية واعية. فكمية الأهمية الفعلية التي تمثلها القضية الجنوبية في توازنات المنطقة تظل محجوبة خلف ستار الإهمال الظاهري بهدف إيهام الشعب الجنوبي بأن قضيته ثانوية ،في محاولة بائسة لتقليل شأنها بما يخدم أجندات ومصالح سياسية دولية لا تتواءم مع الاعتراف الكامل بالحق الجنوبي. فالمجتمع الدولي لا يلغي القضية، بل يعمل على تكييفها وصياغتها لتناسب مخططاته المرسومة سلفًا، مستخدمًا التهميش كأداة ضغط وتوجيه.
وفي المقابل، يتجلى اهتمام غير طبيعي وغير منطقي من قبل المجتمع الدولي نفسه بـالأزمة الحوثية وصراع ما يسمى بـ "الشرعية" معها. فبالنظر إلى السياق التاريخي والسياسي، تبدو هذه الأزمة طارئة وثانوية في نشأتها مقارنة بعمق واصالة القضية الجنوبية. لكنها وُضعت عمدًا في مرتبة الأولوية، بل إن قراءة معمقة للواقع توحي بأن هذا الكيان المسلح يجد دعمًا، خفيًا كان أو جليًا، من قوى دولية لتحقيق ذات الأجندة السياسية التي تسعى إليها هذه القوى من خلف تهميش القضية الجنوبية العادلة. حيث ان الأولوية هنا ليست للعدالة، بل لخدمة المصالح عبر إبقاء المنطقة في حالة من السيولة يمكن التحكم في مخرجاتها.

ومن أغرب مفارقات هذا التعامل الدولي هو الاشتراط لحل القضية الجنوبية بضرورة حل قضية الحوثي أولًا على نحو يتحدى المنطق السوي والترتيب الزمني للأحداث. فالقضية الجنوبية سابقة في نشأتها بعقود لبروز الجماعة المسلحة كقوة مهيمنة. وتاريخيًا، فقد نشأت القضية الجنوبية من تداعيات الوحدة التي تحولت إلى احتلال متكمل الاركان بعد حرب صيف 1994، بينما تبلورت القضية الحوثية لاحقًا كأزمة سلطة في الشمال.
والحقيقة المنطقية التي تتجاهلها الدوائر الدولية هي أن حل القضية الجنوبية هو الذي سيؤدي تلقائيًا إلى حلحلة القضية الحوثية، وليس العكس. فاستعادة الجنوب لوضعه السياسي السابق سيخفف من تعقيدات المشهد ويُعيد رسم حدود القوى والنزاعات، بينما الإصرار على ربط الأمرين ببعضهما يعتبر اعتداء صارخ على الحقيقة.
فالقضية الجنوبية منفصلة تمامًا عن القضية اليمنية في جذورها وأهدافها. ومحاولة الربط بينهما هي محاولة لدمج قضيتين مختلفتين تاريخيًا وسياسيًا في وعاء واحد لتبدو القضية الجنوبية جزءًا من أزمة شاملة، وهو ما يتيح للمجتمع الدولي فرصة التنصل من التعامل معها كحق قومي مستقل عبر تكتيك سياسي يهدف إلى تذويب هوية القضية في سياق إقليمي أوسع.
إن التساؤل الجوهري الذي يفرض نفسه بقوة هو: ما السبب المقنع لتقديم أولوية الاهتمام لأزمة عارضة على حساب قضية قومية اصيلة وعادلة ذات شرعية تاريخية وقانونية ودعم شعبي واسع؟ والإجابة على هذا السؤال لا ترتبط بالأسباب المعلنة، بل بمصالح خفية وبالرغبة في إدارة الأزمة بدلًا من حلها. فمتى سيعيد المجتمع الدولي تصحيح ميزان العدالة المعكوس ويمنح القضية الجنوبية مكانتها المستحقة في صدارة الاهتمام، بعيدًا عن تكييف الأجندات وتجاهل الحقائق التاريخية؟